حظي كتاب ضرورة الفن لمؤلفه النمساوي المفكر والناقد والسياسي إرنست فيشر اهتماماً واسعاً والذي ترجمه للعربية "أسعد حليم" ولعل الكتاب يحمل في مضمونه سؤالاً مشروعاً: ما الذي يجعل الفن ضرورة إنسانية؟

لعل عنوان "ضرورة الفن" يشي بإيمان المؤلف بأهمية الفن وضرورته للإنسان حاضراً ومستقبلاً كما كان في الماضي، فإن الاستنتاج البديهي لا يساق مـن دون إثارة أسئلة عدة يجيب عنها المؤلف ويعزز إجاباته بالأمثلة والبراهين على:

مـا هـو الفـن؟ وهـل هـو ضـرورة حقاً؟ ولماذا كـان ضـرورة؟ وإلى أي حـد يتلـون الفـن بـالتحولات الاجتماعيـة والصـراع الطبقـي؟ وهـل للفـن وظيفـة؟ وإذا كـان الجـواب بالإيجـاب فمـا هـي وظيفـة الفـن؟ هـل مـن فـوارق بـيـن الـفـن في المجتمع الرأسمالي والمجتمع الاشتراكي؟ وإذا كنـا نعـرف ماضـي الفـن، ونعيش حاضـره، فعلـى أي صـورة سيكون مستقبله؟

وفي سياق الإجابة عن تلك الأسئلة وسواها يحفر المؤلف عميقاً في تاريخ الفن عبر مروره بتاريخ الجنس البشري نفسه، منذ العصر الحجري حتى عصرنا الراهن، كاشفاً عن الفنان الأول الذي شذب قطعة الحجر لتصبح أداة قاطعة، لتأخذ مع مرور الزمن شكلاً فنياً يجمع بين المنفعة والجمال، وإذ تنفصـل الـذات عبر العصـور عن الموضوع "الإنسان عن الطبيعـة" ويختـل التـوازن، فيبحـث عـمـا يعيـد إليـه هـذا التوازن في الرسم والشعر والأغنية والمسرحية ومحاكاة ما يسمعه ويراه ويحس به.

يتوقف المؤلف فيشر عند كل مرحلة، وكل اتجاه، وكل ظاهرة أو مدرسة فنية سواء أكانت في الفن التشكيلي أم في الشعر أم في الموسيقا أم في المسرح، فيذكر أبرز أعلامها، ويستشهد بموروثها، ويقارن فيما بينها، رابطاً باستمرار بين التحولات العميقة في المجتمع بما يمـور فـيـه مـن صـراعات خفية، أو معلنـة ومـا يرافقهـا مـن تحـول في الأجنـاس والأشكال والأساليب الفنية، وقـد قسم كتابه إلى خمسة فصـول، جاء الأول: وظيفة الفن، والثاني البدايات الأولى للفن، والثالث الرأسمالية والفـن، والـرابـع المضمون والشكل، والخـامس ضياع الحقيقة واكتشافها.

يحـيـل فيشـر وظيفة الـفـن إلى أصل الفن في البدء، ويراه في السحر، السحر بوصفه أداة للسيطرة على الواقع ومواجهة المجهول فيه والتمكن منه، ثم يشير إلى تراجع السـحـر مـع الـزمن لتصـبح وظيفـة الفـن كـشـف العلاقـات الاجتماعيـة وتنـوير النـاس ومعـاونتهم علـى إدراك الواقـع الاجتماعي وتحفيزهم على تغييره نحو الأفضل والأجمل، من دون أن يفقـد كليـاً المسحة السحرية الكامنة في أصله، لأن الفـن علـى حد تعبيره بغير هذه البقيـة مـن طبيعته الأصلية لا يكون فناً على الإطلاق، وهو يرى أن العامل السحري الإيحائي يتناوب مع العامل العقلـي التنويري في الفـن، وفي الحالتين علـى الـفـن أن يمكن الأنا من الاتحاد بحياة الآخرين.

أما عن الفن والرأسمالية فيستهل المؤلف هذا الفصل بخلاصة مكثفة مفادها أن الملك ميداس كان يحول كل ما يلمسه إلى ذهب أما الرأسمالية فتحول كل شيء إلى سلعة بما في ذلك الفن والإنسان وما يحتاجه في حياته اليومية. ويستشهد بالكاتب الألماني المسرحي بريخت الذي يؤكد ما ذهب إليه بقوله في "أغنيـة التاجر" /مـن أيـن لـي أن أعـرف مـا الأرز؟/ ومـن أيـن لـي أن أعرف شخصـاً يعـرف مـا هـو؟/ أنا لا أدري مـا الأرز! كل ما أعرفه هو ثمنه!

ورداً على نمط الإنتاج الرأسمالي وتحكم الرأسماليـة بكل شيء، والنظر إلى مجمل العلاقات الإنسانية والأجناس الفنيـة مـن منظـور السلعة والسـوق جـاءت الرومانسية بوصفها حركة احتجاج علـى دنيـا "الآمـال الضائعة" وعلى التفاهـة والتجهم اللذين تلتزمهما دنيا الأعمال والأرباح، كمـا ولـدت حركة الفـن للفـن في سياق الـرد علـى الرأسماليـة، وموقفهـا النفعـي الصـارخ، واهتماماتهـا العملية الكئيبة، فقـد نشـأت كمـا يشـيـر بـودلير مـن تصـميم الفنان على ألا ينتج سلعاً في عالم أصبح كل ما فيه سلعة.

وعلى هذا المنوال يتابع فيشر نشأة ومسار ومـآل المدارس والاتجاهـات الفنيـة الـتـي جـاءت صـرخة احتجاج علـى تسليع وتشييء الإنسان والفـن مـعـاً بمـا يخـدم الطبقة المهيمنة ويوسع نفوذها. فيتوقف عند "الطبيعية" و"الانطباعية"، و"الرمزية"، و"العدمية"، وصولاً إلى الواقعية، والواقعية الاشتراكية اللتين يرى فيهمـا الأمل والمستقبل، ويميز بين الأسلوب والموقف في كل منهما، مـن مفاهيم خاطئة وسلبية.

ينتقل فيشـر مـن الـفـن في ظل الرأسمالية إلى الشكل والمضمون، فينـاقش مفهـوم كـل منهما، والعلاقة الجدلية بينهما، ويميز بين الشكل والأسلوب، وصلة ذلـك كله بمفهوم الالتزام في الأدب والفن، ليصل في النهاية إلى أن الشكل هو التعبير عن حالة الاستقرار، أما المضمون فقـرين الحركة والتغيير والتحول.

أخيراً يطـرح فيشـر إشكالية الحقيقة في الحياة وفي الفن، وضياع هذه الحقيقة في الزمن الرأسمالي، معرجا ذلك على العلاقة بين الفـن والجماهير، طارحاً سؤالاً جديداً عن ضرورة الفن، والجواب عنه بأن الفن كان وسيبقى ما دامت الحياة باقية، رغم تجاوز الزمن لبعض المصطلحات والمفاهيم، لكن روح الكتاب وما يثيره من أسئلة مـا يـزال محتفظاً بألقـه وعمقه وجاذبيته الآسـرة.

----

الكتاب: ضرورة الفن

تأليف: إرنست فيشر

ترجمة: أسعد حليم

الناشر: هلا للنشر والتوزيع، 2020