ثمة أمران، أو قل تقنيتان، سيلجأ إليهما الكاتب البريطاني آندرو أوزموند، في سرد روايته "صلاح الدين"، وأزعم إنّ هاتين التقنيتين، كانتا وراء أو دافعنا لنقول عنها إنها رواية "شائقة" بكل ما يعني هذا المصطلح من معانٍ. وليس دليلاً على زعمنا سوى قراءة الرواية نفسها، ذلك أنه ما إن تبدأ قراءتها حتى تمسك صفحاتها بتلابيبك، ولن يكون باستطاعتك إغفالها حتى تنتهي من القراءة، أضف إلى كل ما سبق ترجمة بصياغة لافتة.

أما التقنيتان المقصودتان بالإشارة؛ فهما: الوصف الساحر لأحداث الرواية من بيئة وسرد "بورتريهات"، أي رسم الشخصيات، والثانية الحالة "البوليسية"، أو التشويق البوليسي من خلال "حرب الجواسيس"، والعمليات الخاطفة خلف قوات العدو، بين العرب والصهاينة، التي لجأ إلى سردها الكاتب، وفي دمج التقنيتين معاً (الوصف والتشويق)، استطاع أن يبعد الملل الذي يتسلل إلى تفاصيل "الرواية التاريخية"، أو التي تزعم أنها تقوم على وقائع تاريخية، وذلك من خلال اعتماد السرد على تسارع الأحداث، والرغبة المُحرضة لمعرفة الخواتيم والنهايات، لا سيما وأن الرواية توحي بأنها رواية تاريخية – كما ذكرنا- أي تقوم على أحداث حصلت فعلاً، وخلال أزمنة محددة، وهو الأمر الذي أبعد الحالة التسجيلية والتقريرية عن الرواية، رغم أنها تزعم أنها قائمة على كلِّ ذلك.

لكن قبل أن نخوض في تفاصيل التقنيتين السابقتين، واللتين لم تكونا بالتأكيد عدّة الروائي الإنكليزي السردية الوحيدتين، فثمة الكثير من التقنيات الأخرى المساعدة التي لجأ إليها الكتاب خلال الروي.

لكن قبل ذلك لندخل قليلاً في عنوان الرواية "صلاح الدين"، وهو الأمر المُلفت من كاتبٍ بريطاني أن يعنون روايته باسمٍ "عربي" له في الذاكرة الجمعية ما له لاسيما في العلاقة مع الغرب، وربما أكثر ما تُسجّل الذاكرة في هذا المجال في مدونة القائد "صلاح الدين الأيوبي"، وحروبه الضروس مع الغزو الصليبي للقدس، وسجاله مع زعيم هذا الغزو القائد "ريتشارد قلب الأسد"، والذي أعاد القدس سنة 1187م، وبقيت عربية إلى أن انتزعها الصهاينة خلال عامي 1948 و1967م، والثانية مع رواية تحكي عن زعيم الانتداب الفرنسي على سورية، وأظنه غورو الذي توجه عشية اجتياح قواته لدمشق سنة 1920م، إلى قبر صلاح الدين، ليزف إليه خبر: "ها قد عدنا يا صلاح الدين"، بمعنى أنّ ثمة "استثماراً" لحمولات العنوان – الاسم، بالكثير من التأويل التي اشتغل عليها الكاتب من مسيرة ومصائر الشخصية الرئيسة في الرواية، والتي لن تكون أحداثها بعيدة عن حمى (صلاح الدين) القديم، والتي هي القدس وفلسطين، حيث تصوّر الرواية وقائع الصراع العربي – الصهيوني خلال بدايات سبعينيات القرن الماضي، داخل فلسطين ومحيطها من الدول العربية، حين كان "العمل الفدائي الفلسطسني" في ذروته.

يصوّر الكاتب من خلال ثلاث وجهات للنظر: طرفي الصراع "الفلسطيني – الإسرائيلي"، وثمة وجهة نظر ثالثة من الطرفين مدعومة بمؤيدين من العالم، يُسميها بجهة "الاعتدال" التي تقف في الوسط بين الرأيين الإلغائيين، الأول: الذي يريد رمي "إسرائيل" في البحر، والثاني: يريد "إسرائيل" من النيل إلى الفرات. وثمة وجهة نظر رابعة حاول أن يُخفيها الكاتب، أو يبثها بشكلٍ غير مباشر في تفاصيل الأحداث والوقائع التي جرت، وهي رأي الكاتب نفسه رغم كل محاولات الطرح بموضوعية.

إذاً صلاح الدين المعاصر، يحمل من صلاح الدين القديم الاسم، وقليلاً من الأمور الأخرى كالتفاوض، ولكنه هنا مفاوض ضعيف، ومفاوضات أثبتت الأحداث أنها في غير زمانها، أمام جهتي (حرب الوجود)، حيث ستكثر الشخصيات التي تتبنى هذه الحرب من (أحمد زيتي) في الطرف الفلسطيني، إلى المتطرف اليهودي (سامي جيسنر) من الطرف الإسرائيلي، الذي يخاطب المقدم الصهيوني "ياكوف": ما يجب أن يكون شغل إسرائيل الشاغل، هو إعادة إخضاع تامة لمملكة سليمان. وهو الأمر الذي جعل "وجهة" نظر صلاح الدين الجديد، الذي لا يعدو سوى اسم حركي لـ"أنيس قبعين" رجل أعمال فلسطيني يحمل الجنسية الأمريكية، أراد أن يفرض وجهة نظر ثالثة – أي حل الدولتين – وإن كان بالقليل من العنف كخطوة لإجبار الأطراف على الجلوس إلى طاولة المفاوضات لأجل حل الدولتين طالما وجهتا النظر تبدوان "مستحيلتي" التحقيق. صلاح الدين الذي لا يمل يُردد: "ما نحتاج إليه؛ هو إظهار بعض العضلات من خلال قوى التسوية تكون كافية لإنزال "غولدا مائير عن حمارها". ومن ثم تبدو النهاية التراجيدية لـ (صلاح الدين) المُبتلى بمرضٍ عضال، حيث كل الأطراف لها مصلحة في تصفيته، وهو ما يُشير من خلاله إلى استحالة التطبيع بين الطرفين، وهو ما تؤكده أيضاً الخاتمة، حيث يُعمى (يائيل ياكوف) الإسرائيلي، ويفقد عينيه، فيما (بسام عودة) الفلسطيني، يُصاب بالخرس التام، بعد إصابة الرجلين خلال الحروب الخاطفة بين الطرفين. وهكذا سيخفق صلاح الدين مع الإنكليزي "المسكين"، وسوف تخفق كل الأطراف المحايدة الأخرى، "لأنّ القوى في اللعبة كانت قوية جداً، ولا توجد مساحة لحل وسط بين خوف اليهود وكبرياء العرب" حسب ما يخلص إليه الكاتب.

ومن هنا ربما نفهم كيفية تقديم الكاتب لـ (صلاح الدين) بهذه الهشاشة طول الوقت، رغم أن الرواية تحمل اسمه، إذ حتى الصفحة (92) لن تعرف عنه غير القليل، فكل ما تقدّم كانت إرهاصات أولية وتفاصيل قليلة نسمعها عن الرجل من بعض من يعرفه.

الأطراف المؤيدة لوجهة نظر (صلاح الدين)، تأتي من خارج العرب، ومن خارج فلسطين المحتلة، إلا قليلاً، فهناك (بسام عودة)، و(إيتان هورديتز،) لكن الأبرز في هذا المجال هم مجموعة من البريطانيين والفرنسيين والأمريكان، واليونانيين تجمعهم فكرة واحدة، وهي أنّ صلاح الدين على "حق" فيما يفكّر فيه، لاسيما لجهة عبثية القتل التي لا طائل من ورائها منهم: العقيد جيمس مارسدن، والموظفان في "الأنروا": كلوديا ليز، وجيسكار. والأهم من كل ما تقدم (ستيفن رسكو) الذي كان الشخصية الرئيسة في الرواية، وكان حتى خواتيمها يحمل مهمة (الراوي) قبل أن يتدخل الكاتب – الروائي في الخواتيم، ليؤكد لنا أن ما قام به من روي، هو سرد لأحداث وقعت بالفعل، وها هو – على طريقة بعض الأفلام والمسلسلات – يكشف لنا المآلات الأخيرة للشخصيات التي مازالت على قيد الحياة.

وغير تلك التقنيتين السابقتين، نُشير كذلك إلى معطى الرشاقة، لا سيما في الجانب الشكلاني والإخراجي للرواية، وذلك عندما لجأ الكاتب إلى تقسيم الرواية إلى أجزاء بأسماء تُشير إلى أحداث معينة ستجري، وكلّ جزء، إلى أجزاء أصغر. مثل هذا "التبويب"، منح الرواية الكثير من ضبط الأحداث وتوجيهها للمصائر التي هي مآلات الكاتب في النهاية، وهو الأمر الذي زاد من عنصر التشويق، إلى درجة حبس الأنفاس لا سيما في الفصول الأخيرة بما يُشبه أساليب (دان بروان) في مختلف رواياته من "شيفرة دافنشي" وحتى آخر رواية كتبها.

بقي أن نشير إلى ما ذكره الروائي والسينمائي الفلسطيني وليد عبد الرحيم عن المؤلف (آندرو أوزموند) في مقدمته للرواية إنّ: "فلسفة من كتب الرواية، توضّح بأنه يهودي الثقافة، يساري الهوى، لا يريد إنهاء المشكلة إلا بتقسيم فلسطين"، ويُضيف: "جاءت الرواية بعبارات متلاحقة، وخبرة كتابية عالية بما يُشابه أفلام الأكشن، وهو ما يتناقض مع برودة وهدوء الإنكليز وأدبهم". وبرأيه – الذي نتفق معه-؛ أنها رواية تمت صياغتها عبر شخصيات أدبية متعددة الجنسيات، أو هناك طاقم عمل – مؤسسة متكاملة من بينها فلسطينيون وعرب، عملت على إنجاز هذا العمل السياسي المحكم بصيغة أدبية تشويقية ومحترفة، وبتقديري لا يؤكد ما سبق غير حالات الوصف لمشاهد الأحداث، وكأنّ الكاتب ولد في هذه الأمكنة جميعها، حيث يعمد ومن خلال مهارة مُدهشة في الوصف، إلى إحاطة كل حدث بمشهدٍ كامل من الصور في المكان ابتداءً من أصوات الليل والنباتات وحتى الحالة الزمنية، حيث يأتي الوصف إطاراً للأحداث، وصولاً لاستكمال هذا الوصف لجوانيات الشخصيات.

----

الكتاب: صلاح الدين

الكاتب: آندرو أوزموند

ترجمة: منير صالح

الناشر: دار دلمون الجديدة، دمشق