يرى الكاتب محمد مفيد الشوباشي في كتابه "الأدب الثوري عبر التاريخ" أن هناك إشكاليات في الثقافة والأيديولوجيا ولها تأثير على مناحي الحياة في الاقتصاد والأدب وانعكاس تأثيرها على العلم والأدب والفلسفة والحياة السياسية، وصولاً إلى تطور الأدب الثوري في التقدم المجتمع ونهضته.

يؤكد الكاتب محمد مفيد الشوباشي في كتابه أنه لعل البوادر الأولى لنهضتنا الأدبية الحديثة على ضوء ما تقدم، لاحت في أفق حياتنا بعد أن فتحت نوافذها المغلقة على أوروبا وتقدمها الفكري، ونفض الغبار عن كواهلنا، والأخذ بعد طول السبات بأسباب النهوض، وانتشر التعليم بعـد إقبال الناس عليه، وتطلع كثيرون منهم إلى نهضة جـدودهم الأدبية، ونقبـوا عـن آثـارهم. ونشرت المطبعة الأميرية بعض الدواوين العربية القديمة، فراجعت سوق الشعراء، وظهـر شـعراء محـدثون حـاكوا أسلوب الشعراء القدامى، وعبروا عن معتقدات عصرهم وميوله. ونهض الشعر نهضة مرموقة بفضل محمود سامي البارودي، وأعقبه شوقي وحافظ اللذان انصرف نشاطهما نحو الشعر السياسي، واتسمت قصائدهما بالعاطفة الوطنية، وبالثورة على الاستعمار البريطاني، واكتسب أسلوبهما بعض الجدة والأصالة. ثم ظهر كتاب عيسى بن هشام الذي انتصر للتقدم العصري في الميدان الحضاري.

وكانت هذه الأعمال الأدبية تعكس في أغلب الأحيان معتقدات الطبقة الوسطى التي اطرد نماؤها في تلك الآونة، ولكـن كـان ينقصها نضـج الـوعي والتمرس. ومـا إن انتشرت القراءة والكتابة حتى تزايدت الكتب المطبوعة وتنوعت وعكف المتطلعون إلى أوروبا على الروايات الأوروبية المسلية فترجموها إلى العربية ونشـروهـا، فـلاقـت مـن القـراء إقبالاً لا بأس به وغرست فيهم البـذور الأولى للميل إلى القصة الحديثة، ولكنها خلت من أهـداف سياسية واجتماعية، فلم تنل من اهتمام القراء. واشتدت الحركة الوطنية بعد ظهور مصطفى كامل، حيث كان التيار الوطني هو الغالب على الشعر. وظهر شعراء تملكتهم العزة بالنفس، فعبروا بالشعر عن آرائهم وميولهم الذاتية، ووصفوا الشعر الذي لا يعبر عن الذات بأنه شعر مناسبات.

أولئك الشعراء هـم شـكري والعقاد والمازني. وقد مهـدوا لظهور الشعر الرومانسي الذي حمـل لـواءه شـعـراء مدرسة أبولو. وعلـى الـرغـم مـن أن هـؤلاء الشعراء الـذاتيين أثـروا حركتنـا الأدبيـة وعمقوهـا، وحرروهـا مـن ربقـة محاكاة الأدب العربـي القـديم، فقـد عـجـزوا أن يحققـوا لـهـا الاستقلال، ولم يستطيعوا إلا أن يربطوهـا بعجلـة الأدب الأوروبي. فإذا مـال البورجوازيون المصريون في ذلك الوقت إلى محاكاة الأوروبيين واستوردوا جميع السلع من بلادهم، فلا عجب إذا سـار أولئك الشعراء علـى منـوال مواطنيهم وحاكوا شعراء الغرب، واقتبسوا منهم الموضوعات والأفكار والمعاني. وكان الشغل الشاغل للقوى الثورية منصرفاً وقتذاك إلى مناهضـة المستعمرين، لذا اقتصـر الأدب الملتزم في تلك الحقبة على طرق الموضوعات الوطنية، والتعبير عن مشاعر تلك القوى الثورية، ثم ظهرت باكورة القصة المصرية الطويلة، وهي قصة "زينب" لحسين هيكل، وتلتها قصة "دعاء الكروان" لطه حسين، وقد حاولت كـل مـن هـاتين القصتين تصوير الحياة في الريف المصري، وإظهار العلاقة غير الإنسانية بين ملاك الأراضي والفلاحين، ولكنهما اقتصرتا على كشـف نـوع واحد من اعتداء هؤلاء السادة على مسوديهم، وهو على العرض، وأغفلتا الاعتداء على سائر حقوق الفلاحين. وبانتهاء الحرب العالمية الثانية انتهـى في عالم الأدب الاعتداء المصري وبدأ عهد جديد.

ونوه الكاتب في ذلك الوقت ظهر لفيف من شباب مصر الثوري طالب بأدب يقلع عن محاكاة أدب الغرب، وينصرف إلى تصوير الحياة المصرية على حقيقتها، وتسجيل نشاط مجتمعها وإبراز التناقض الناشب بين مختلف فئاته، ومناصـرة قـواه التقدمية على قواه الرجعية، وظهرت في عالم النقد مدرسة وضعت أسساً وقواعـد لتلـك الـدعوة، ولم تلبث أن ظهـرت قصص لنجيب محفوظ اضطلعت بتصوير مظاهر الحياة السياسية والاجتماعية المصرية، ورغم أنها لم تتخذ موقفاً معينـاً مـن الصـراع الـذي صورته، وخطت بالقصة المصرية خطوة واسعة إلى الأمام.

ثم ظهرت ليوسف إدريس قصص وطنية صورت الصراع الذي كان محتدماً بين المجتمع والاستعمار وعملائه، وظهـرت لـه قصـص أخـرى ريفيـة صـورت استغلال أصحاب الأراضي الزراعية للفلاحين.

بهذه النهضة القصصية انعقدت الأمال الكبار حتى هبت عليها من الغرب الأوروبي رياح مخربة حولت مجراها من عالم الواقع إلى عالم الغيب، ونشط النقـد الرجعي الـذي روج للبـدع الأدبيـة الأوروبيـة المنحرفة. بيد أن الأمـل كبير في أن يفطن رواد القصة العربية الحديثة إلى أهميـة الخـط السليم الذي التزموه في مطلع حياتهم الأدبية، واستهوت القصة القصيرة لفيفـاً مـن شـبابنا المخلص المؤمن بالواقعية الاشتراكية في الأدب، وحققت تقدماً ملحوظاً.

----

الكتاب: الأدب الثوري عبر التاريخ

الكاتب: محمد مفيد الشوباشي

الناشر: اتحاد الكتاب العرب، دمشق