نشأ الشيخ علي الدرويش في مدينة حلب، وسط عائلة صغيرة تعيش في بحبوحة، ذلك لأن والده يعمل في تجارة الأقمشة الرائجة في كل الأزمنة، وتبعاً لعادة أهالي المدينة العريقة وحبهم للموسيقا والغناء، فقد تأثر والده إبراهيم بهما، لكن التدين والتقوى منعاه من حضور جلسات الطرب التي لا يخلو حي من أحياء حلب منها، ولهذا السبب كانت الزاوية المولوية مهوى فؤاده، فيحضر جلسات الذكر فيها، ويشارك في إنشاد ألحانها، ويشعر بمتعة بالغة حين يصحب طفله علي الذي لم يكن أكمل الرابعة إليها.

في هذه السن المبكرة وعى الشيخ علي اللحن يتغلغل في أذنيه، ويغشى شغاف قلبه ويداعب شرايينه، فتنتشي أوردته على نغمات الموشحات والقدود، وقد دفع الوالد ابنه إلى الكتّاب ليحفظ القرآن الكريم، وليتعلم مبادئ القراءة والكتابة والحساب، ثم إلى المدرسة الابتدائية الأشرفية، ومنها إلى المدرسة العثمانية، ولم تمنع الدراسة في مدرسة دينية الشيخ علي من تعلم العزف على آلة الناي ودراسة الموسيقا، التي تعلم أصولها على يد أقدر الأساتذة ومشايخ الصنعة.

ولقد عمل الشيخ علي على تدوين كل ما وقع في يده من ألحان آلية أو غنائية، ولم يقصُر عمله هذا على ما كان منها سورياً وحلبياً، بل انسحب على ألحان الدول العربية والإسلامية التي زارها، لذلك يُعد أول شخصية موسيقية خرجت من حلب، وحاز بجدارة على لقب "العالم المحقق والموسيقي المتثبت المدقق".

وعندما سمع الأمير خزعل أمير إقليم عربستان بالشيخ علي، أرسل إليه طالباً تشكيل فرقة غنائية تحل في دياره وقصره، وحين وصلته الدعوة اتصل بمن يثق بعلمه وبحفظه وعذوبة صوته، فكانت الفرقة مكونة من الشيخ علي الدرويش والحاج عمر البطش ومحمد طيفور وغيرهم، حيث طاب له المقام في عربستان بضيافة الأمير خزعل، ولقي منه كل إجلال وإكبار، ونشأت بينهما علاقة صداقة وطيدة بعد أن لحن قصائد نظمها الأمير، وحفظتها فرقة الشيخ علي وغنتها في مجالس الإمارة.

وبين العامين 1912 و1914 زار الشيخ بغداد وطهران وبومباي في الهند، واطلع على الموسيقا الفارسية والهندية، إلى جانب المساجلات الموسيقية التي كانت تجري بينه وبين مختلف الفرق الوافدة لقصر الأمير خزعل، حتى وصل به الأمر إلى مشاركتهم عزف موسيقاهم وتدوين بعضها.

وفي العام 1914 تقدم الشيخ إلى مسابقة لانتقاء مدرسين لمادة الموسيقا لدى وزارة الأوقاف والمعارف العثمانية، طمعاً في الارتحال والوصول إلى العاصمة إسطنبول، حيث علماء الموسيقا الأجلاء الذين سمع عنهم وعزف مؤلفاتهم. وبعد نجاحه في المسابقة التي جرت في طرابلس الشام، صدر قرار سام بتعيينه مدرساً في مدارس عدة تابعة لولاية قسطموني شمال تركيا.

وبعد تفوقه معلماً ومدرباً عاودته حمى الدراسة والغوص في بحر المعرفة والاستزادة من العلوم والأبحاث الموسيقية، فقرر الالتحاق بمعهد دار الألحان الذي يُعد أكاديمية عليا للموسيقا في ذلك العهد، حيث راح يحضّر أبحاثه على يد أقدر الأساتذة، فأشركوه في مناقشاتهم وأبحاثهم حول كل معضلة يريدون الوصول إلى حلول لها. وقد قضى الشيخ سنوات تسع بين قسطموني وإسطنبول دارساً ومدرساً، قاطعاً شوطاً كبيراً في تأليف كتابه "النظريات الحقيقية في القراءة الموسيقية".

وفي العام 1923 عاد الشيخ إلى حلب ليستقر بها حيث لفت نظره نادياً للفنون على اختلافها قام بتأسيسه لفيف من الفنانين المعروفين بقدراتهم ومواهبهم، وبعد أن علموا بعودته سارعوا إلى دعوته ليرأس قسم الموسيقا فيه.

ثم كان له رحلة إلى مصر بناءً على دعوة وجهت من قبل رئيس نادي الموسيقا الشرقي بالقاهرة، ما يدل على أن شهرة الشيخ قد طبقت الآفاق، وأن المهتمين بالموسيقا العربية في كافة أنحاء الوطن العربي والعالم الشرقي عرفوا له مكانته عالماً وباحثاً موسيقياً لا يبارى.

وبعد مصر استقر المقام بالشيخ علي في ضاحية سيدي بو سعيد بالقرب من تونس العاصمة كضيف في قصر البارون دير لانجيه، وهناك بدأ يكتشف أجواء الموسيقا التونسية ويتعرف إلى الموسيقيين التونسيين الذين راحوا يتقاطرون على محل إقامته ينهلون من علمه وثقافته وعزفه، فما كان من المسؤولين في وزارة المعارف إلا أن تعاقدوا معه على التدريس في المعهد الرشيدي للموسيقا التراثية، كما قلده ملك تونس وسام الافتخار من الدرجة الثالثة. وبعد حوالي ثماني سنوات قضاها الشيخ في تونس مكرماً واهباً معطاءً غادرها عائداً إلى مدينته حلب، حيث بادر فخري البارودي الداعم الأكبر للفنون والموسيقا، ومنشئ معهد الموسيقا في دمشق للاتصال بالشيخ ليسند إليه رئاسة القسم الشرقي في المعهد.

ولأنه لم يكن في حلب أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين مدارس أو معاهد لتعليم الموسيقا، كان لا بدّ من شخصية ذات اعتداد وثقة بإمكاناتها ومستوى موسيقي رفيع ومكانة اجتماعية تنظم عقد المدرسين في موئل علمي ومعقل فني يضم تحت سقفه الموهوبين، وكانت هذه الشخصية الطبيب الدكتور محمد فؤاد بن أحمد رجائي آغا القلعة الذي قام بدعوة الشيخ علي أواخر عام 1915 إلى المعهد الموسيقي الشرقي والإذاعة الوليدة، حيث قام الشيخ رغم ما يعانيه من سقم بواجبه العلمي نحو طلاب المعهد، وفي الإذاعة سجل بعضاً من أعماله الآلية والغنائية، لكن المرض لم يمهل الشيخ علي لاستكمال الكثير من أعماله الهامة التي حضّر لتسجيلها لصالح إذاعة حلب بأصوات مطربيها، حيث قضى نحبه مودعاً أبناءه بكتبه ومخطوطاته التي تحوي خلاصة عمله وجهده لسنوات.

----

الكتاب: العالم الرحالة الشيخ علي الدرويش الحلبي

الكاتب: محمد قدري دلال

الناشر: الهيئة العامة لدار الأسد للثقافة والفنون، دمشق