في كتابها "العقلية.. علم نفس النجاح الجديد" تقول الأستاذة في علم النفس "كارول س دويك": "في أحد الأيام حاولت أنا وطالبة الدكتوراه ماري باندورا أن نفهم سبب انشغال بعض الطلاب بإثبات قدراتهم، بينما يترك الآخرون الأمور تسير على هواها ولا يكترثون بدراستهم، وفجأة أدركنا أن هناك معنيين للقدرة، (قدرة ثابتة يجب إثباتها، وقدرة قابلة للتغيير يمكن تطويرها من خلال التعلم)، وهكذا ولدت العقليات".

ترى دويك أنه عندما تدخل في عقلية ما، فإنك تدخل عالماً جديداً، ففي عالم ما قد يكون (عالم السمات الثابتة) وفيه النجاح هو مجرد إثبات أنك ذكي أو موهوب، أي إثبات نفسك، أو تدخل في العالم الآخر (عالم الصفات المتغيرة) حيث يتعلق الأمر بتوسيع آفاق نفسك لتتعلم أشياء جديدة أي لتطوير نفسك.

وفي أحد العالمين يعد الفشل نكسة، وأنك في حال الحصول على درجة سيئة أو خسارة بطولة أو طرد من الوظيفة مثلاً، هذا يعني أنك لست ذكياً أو موهوباً. أما في العالم الآخر فالفشل دليل عدم التطور المطلوب، وعدم الوصول إلى الأشياء التي تقدرها، يعني أن إمكاناتك اللازمة لم تكتمل بعد.

القدرة والإنجاز

توضح دويك أن هناك العديد من الأساطير حول القدرة والإنجاز، لا سيما الشخص الوحيد اللامع الذي يُنتج الأشياء المذهلة بشكل مفاجئ، ومع ذلك فقد استغرق عمل داروين الأصلي "أصل الأنواع" سنوات طويلة من العمل الجماعي في الميدان، ومئات المناقشات مع الزملاء والموجهين، والعديد من المسودات الأولية، ونصف عمره من التفاني قبل أن يؤتي ثماره. كما كان موزارت يعمل على كل مقطوعة موسيقية نُعجب بها الآن أكثر من عشر سنوات، وقبل ذلك لم تكن مؤلفاته أصلية أو مثيرة للاهتمام.

لكن بالنسبة إلى دويك فإن رؤية إنجاز طالب في مرحلة التطور له تأثير أكبر من جميع القصص عن داروين وموزارت، لذلك قامت بقياس عقلية الطلاب وهم ينتقلون من المرحلة الابتدائية إلى الإعدادية، وهي فترة تعتبر عصيبة بالنسبة إلى الكثير منهم. وفي الدراسة أظهر الطلاب ذو العقلية الثابتة فقط انخفاضاً في مستوياتهم التحصيلية، وانخفاضاً في الدرجات، وساءت مستوياتهم ببطء لكن بثبات من سيئ إلى أسوأ على مدار عامين، في حين أظهر الطلاب الذين لديهم عقلية التطور زيادة درجاتهم على مدى العامين.

وتبيّن دويك أن الطلاب ذا العقلية الثابتة كان هدفهم الرئيس في المدرسة - بصرف النظر عن المظهر الذكي – هو بذل أقل جهد ممكن، إنهم يوافقون على اعتبارات مثل (في المدرسة هدفي الرئيسي هو القيام بالأشياء بأكبر قدر ممكن من السهولة، لذا لا يتعيّن عليّ العمل الصعب كثيراً)، وهذا ما تسميه دويك "متلازمة الجهد المنخفض".

بعد مجموعة من الدراسات والتجارب، خلصت دويك إلى أن العقلية الثابتة تحد من الإنجاز، وتملأ عقول الناس بأفكار متداخلة، وتجعل الجهد أمراً غير مقبول، وتؤدي إلى استراتيجيات تعليم أدنى، وتجعل الأشخاص والآخرين قضاة بدلاً من حلفاء، سواء كان الحديث عن داروين أو طلاب جامعيين، فإن المهمة تتطلب تركيزاً واضحاً وجهداً شاملاً، وشجرة لا نهاية لجذورها مليئة بالاستراتيجيات، بالإضافة إلى الحلفاء في التعلم، وهذا ما تعطيه عقلية التطور للناس، ولهذا السبب تساعد قدراتهم على التطور وتؤتي ثمارها.

عقلية الموهبة

تشير دويك إلى أنه في العام 2001 جاء الإعلان الذي صدم عالم الشركات (إنرون – ملاك الشركات، شركة المستقبل – تلاشت)، وتساءلت: ماذا حدث؟ وكيف تحول مثل هذا الوعد المذهل إلى كارثة مروّعة؟ وهل هو عدم الكفاءة؟ أم هو الفساد؟

وتجيب دويك بأنها العقلية، فوفقاً لما كتبه مالكولم غلادويل في صحيفة نيويوركر أصبحت الشركات الأمريكية مهووسة بالموهبة، حيث أصر كهنة شركة ماكنزي على أن نجاح الشركات يتطلب العقلية الموهبة، ويجب على الشركات ألا تدّخر أي مبلغ في توظيف المواهب، لأنها السلاح السري ومفتاح التغلب على المنافسين، وكان برأي غلادويل أن هذه العقلية الموهوبة هي العقيدة الجديدة للإدارة الأميركية، ولقد خلقت خريطة طريق لثقافة إنرون، وزرعت بذور زوالها.

وبالفعل قامت الشركة بتوظيف المواهب الكبيرة، ومعظمهم من الأشخاص الذين يحملون درجات خيالية، ودفعت لهم أموالاً ضخمة، وخلال وضعها الإيمان الكامل بالموهبة قامت شركة إنرون بالعمل القاتل، حيث خلقت ثقافة عبادة الموهبة، مما أجبر موظفيها أن يظهروا ويتصرفوا كموهوبين فوق العادة. وهنا ترى دويك أن الشركة أجبرتهم على التفكير بعقلية ثابتة، فالأشخاص ذوو العقلية الثابتة لا يعترفون بعيوبهم ومن ثم لا يصححونها.

وفي المقابل شرع جيم كولين في بحث استكشافي عن السر الذي جعل بعض الشركات تنتقل من كونها جيدة إلى كونها رائعة، فقام وفريقه بدراسة مدتها خمس سنوات لإحدى عشرة شركة، فخلصت الدراسة إلى العديد من العوامل المهمة، لكن العامل الأساسي كان مرتبطاً بنوع القائد الذي قاد الشركة في كل حالة إلى القمة، وهذه العوامل لم تكن أكبر من عوامل الحياة نفسها، لقد كانوا أشخاصاً متواضعين يطرحون الأسئلة باستمرار، ولديهم القدرة على مواجهة أكثر الإجابات وحشية، كما كانوا يتصدون للإخفاقات وجهاً لوجه، حتى لو كانت إخفاقاتهم الشخصية، مع الحفاظ على الإيمان بأنهم سينجحون في النهاية، وهؤلاء القادة لديهم ما يسمى بعقلية التطور.

المعلمون والمدربون

فيما يخص المعلمين والمدربين تضع دويك عدداً من الأسئلة (هل تفكر أولاً وقبل كل شيء في سجلك وسمعتك؟ هل أنت غير متسامح مع الأخطاء؟ هل تحاول تحفيز لاعبيك من خلال التوبيخ؟) وترى أنه قد يكون هذا ما يعيق الرياضيين. وهنا يجب التفكير في عقلية التطور، بدلاً من طلب ألعاب خالية من الأخطاء، وطلب الالتزام الكامل والجهد الكامل، وبدلاً من الحكم على اللاعبين يجب منحهم الاحترام والتدريب اللذين يحتاجون إليها لتطوير ألعابهم وأنفسهم.

وتؤكد أنه بالنسبة إلى المعلمين، فالمهمة هي تطوير إمكانات الناس، فتدعوا إلى استخدام جميع دروس عقلية التطور وأي شيء آخر يمكن فعله للقيام بذلك.

----

الكتاب: العقلية، علم نفس النجاح الجديد

الكاتب: كارول س دويك

ترجمة: علي أحمد ناصر

الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب