لقد ظلت سورية ومن أي زاوية ينظر إليها المرء، أرضاً تحيط بكثير من مواقع القوى. وعلى المستوى الثقافي كانت على الدوام جزءاً لا يتجزأ من المشرق، حيث كانت منذ العهد الفينيقي وما بعده لها روابط واتصالات مع الساحل الأفريقي الشمالي ومع الشمال الغربي الأفريقي وإسبانيا.

كما كان لسورية في الشمال حدود مفتوحة على الأقاليم الجبلية لشرقي الأناضول، ومن جهة الجنوب في الصحراء الكبرى لشبه الجزيرة العربية، كذلك من الجنوب أيضاً كانت مرتبطة مع الأناضول عبر طريق البخور الذي يبدأ من اليمن. أما من جهة الشرق فكانت منفتحة على بلاد الرافدين. وهكذا شكلت سورية جسراً بين الشرق والغرب، وأرضاً عبرت من خلالها التجارة لمسافات بعيدة، الأمر الذي أدى إلى إغناء المدن السورية الكبرى، إضافةً إلى كونها الأرض التي شهدت انتشار وتفاعل الأديان والثقافات.

الحياة المدنية في سورية

تتضح الأهمية الاستثنائية للثقافة المدنية في سورية في نسبة سكان المدينة الإجمالي للسكان، أما المنتجات الصناعية الخاصة فكانت تخص دائماً الطبقة العليا الصغيرة المؤلفة من مالكي الأراضي الذين يعيشون في المدينة، ومالكي الأعمال الصناعية المدنية والتجار الأغنياء والموظفين والإداريين والعسكريين ذوي الرواتب العالية والطلاب.

وإلى جانب العوامل السورية التي أثرت بقوة على الثقافة المدنية، والتي نقلت بسرعة من وإلى إسطنبول، وجدت العوامل الأوروبية طريقها إلى سورية إما عبر إسطنبول (فترة حكم إبراهيم باشا سورية)، أو عبر القاهرة، أو من خلال الاتصال المباشر بين المدن السورية وفرنسا.

ولقد شكلت كل من حلب والعاصمة دمشق المركزين الأكثر أهمية للمنتجات الحرفية المتنوعة، ويعكس ازدهار وتراجع الحرف اليدوية المدنية بين بداية القرن التاسع عشر واليوم التاريخ المتفاوت للمنطقة، ونجاح المنافسة الناتجة عن الأشياء الكبيرة المستوردة المصنعة بأسعار رخيصة من أوروبا، والتقدم الحاصل في الصناعة في سورية واندماجها في التجارة العالمية الحديثة.

ومن جهة ثانية، عندما وصل الاستشراق إلى أوروبا وأصبح رائجاً هناك في نهاية القرن التاسع عشر، انتعشت حياة جديدة ضمن الحرف التي انقرضت تقريباً، لكن ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية تراجع إنتاجها مرة أخرى.

ومنذ ظهور واستثمار النفط في العام 1970، وجد حرفيو دمشق أسواقاً جديدة لهم في دول الخليج العربي، وازدادت صناعة السلع المخصصة للسوق السياحية وللتصدير إلى أوروبا، وأصبح من المتعارف عليه بين أبناء الطبقة العليا في سورية وبين أبناء الطبقة الوسطى الناشئة، أنه من مقومات الأناقة تأثيث منزل على الطراز السوري التقليدي، ولا تزال المهارات الحرفية متوفرة حتى الآن، تستبدل أحياناً المواد الأولية الغالية الثمن بالمواد البلاستيكية مواد أخرى يسهل التعامل معها.

الزراعة في سورية

كانت سورية خلال العصور القديمة مصدراً رئيسياً للحنطة للإمبراطورية الرومانية، وكانت الأراضي التي تستخدم زراعياً منذ العصور القديمة تقع غرب الخط القادم من درعا عبر دمشق إلى حلب، وقد تنوعت الكثافة السكانية فيها في فترات مختلفة.

لكن الزراعة في تلك المناطق شهدت انحداراً نتيجة غزو المغول بقيادة هولاكو عام 1260، والخراب الذي سببته جيوش تيمورلنك عام 1400، ثم عاود انتعاشها خلال العصر الذهبي لإمبراطورية المماليك، وفي أوج ازدهار العثمانيين انتعشت الزراعة إلى أن حدث انهيار كبير جداً أثناء السنوات بين 1750 و1830، ولم يتغير الأمر حتى فترة حكم إبراهيم باشا في منتصف القرن التاسع عشر.

ومع حلول عام 1922 كانت المنطقة الزراعية في سورية من ضمنها لبنان تبلغ ما يقارب مليون هيكتار، وفي عام 1938 في سورية وحدها بلغت مساحة المنطقة الزراعية 1.4 مليون هيكتار، ازدادت بين عامي 1945 و1947 إلى 2.2 مليون هيكتار، كما حدث توسع آخر بسبب إنشاء بحيرة الأسد على نهر الفرات والجفاف التدريجي الحاصل من وباء الملاريا الناجم عن طوفان نهر العاصي.

وفي العام 1975 كان حوالي نصف السكان في سورية يعملون بالزراعة بشكل فعال، لكن النسبة انخفضت في العام 1985 إلى أقل من الثلث مع بقاء الزراعة كمساهم بنسبة 22 بالمئة من نمو الناتج القومي السري آنذاك.

البدو في سورية

لطالما وفرت السهوب الصحراوية في سورية الداخلية بين دجلة والفرات ظرفاً مثالياً لثقافات البدو الرعوية خلال آلاف السنين، وعلى الرغم من الاعتراضات المتكررة على توسعهم، فقد لعب البدو دوراً هاماً في الشبكة المتوازنة والمعقدة للعلاقات بين سكان المدينة والفلاحين والبدو عبر القرون، أما في المئة سنة الأخيرة فقد تضاءل اقتصاد البدو في كل مكان من الشرق، حتى أصبح مهدداً بالانقراض في سورية.

ولقد كانت قبيلتا "شمر" و"الرولة" أكبر وأكثر القبائل في سورية، حيث توجد القبائل الرعوية الصيفية لقبيلة الشمر في جنوب سورية وعلى ضفاف نهر الفرات، أما بالنسبة إلى قبيلة الرولة فعلى حدود الأرض المستوطنة حديثاً إلى الغرب (الأراضي الجبلية لسورية المركزية والجبال البازلتية جنوب سورية)، أما مناطق الرعي الشتوية للبدو السوريين، فهي تقع بعيداً إلى الجنوب من الأقاليم العراقية الغربية الجنوبية وشرقي الأردن وشمال شبه الجزيرة العربية.

----

الكتاب: الفنون والحرف السورية

الكاتب: جوهانز كالتر، مارغريتا بافالوي، ماريا زيرنيكل

ترجمة: إيمان اليحيى

الناشر: الهيئة السورية العامة للكتاب