بدأ الشاعر فؤاد كحل رؤيته بمختارات "الله والغريب" المنجز الإبداعي للأديب الراحل سلامة عبيد، بأنه يملك الروح التي تتقد بالجمال والتمرد. هذه المختارات من اختيار وإعداد الدكتور ثائر زين الدين، وتقديم فؤاد كحل.

كم من أمداء يمكن أن يذهب إليها القلب، تفصل بين ضفتين: الأولى ديوان "لهيب وطيب" والثانية ديوان "الله والغريب"، وبينهما كم هائل من الإبداع المتنوع، ولكنني سأركز على موضوع هام هو التمرد الذي تميزت به روح الشاعر سلامة عبيد، منذ أن كان طفلاً، إلى أن حط رحاله أخيراً بالقـرب مـن جـذور السنديان، في مدينة السويداء، عائداً من جمهورية الصين البعيدة، ويقول في قصيدة "نجوى" مخاطباً نهر العاصي:

نعم العصاة إذا هم

ثاروا على القيد الرهيب

وتفلتوا فإذا السفوح تضج

باللحن الغضوب

إلى أن يقول:

يا نهر، ذنبك في إبائك

بعض مالي من ذنوبي

ما زلت مثلك عاصياً

والطيب ينبت في دروبي

ويتابع الاديب فؤاد كحل بوحه: لقـد تـشكلت روح التمـرد لـدى الـشاعـر مـن تـاريـخ مـشتعل بالبطولة، وأرض عامرة بالبراكين، وطفولة معجونة بالألم، وبيت يفيض بعبق الثورة والشهادة والوطنية. لقد ولد الشاعر تحت ظلال السيوف والرايات، ولهذا ظل يشحذ همته في الفضاءات التي كان ينخطف إليها في كل المجالات الإبداعية من شعر، ورواية، وترجمة، وتـاريخ، وقـصة، ومذكـرات، ومسرحيات، وتأليف معجمـي وتدريس، وتأليف متنوع نقـدي وبحثي آخر، وغير ذلك من المجالات الإبداعية التي أراد أن يبدع فيها، ويخوض غمارهـا. إن اللهيب في البادية العربية، أنضج الطيب في الموهبة الشعرية، لـدى سـلامة عبيد، فكـان شـعـره مـرآة حياته، وكانت حياته الغنية ينابيع شعره، وإبداعه الأدبي، وهكذا سكب روحه المتمردة المتقدة في الكثير من قصائده، فكان الشاعر الإنسان الثائر على القيم البالية وعلى الاستعمار وعلى الطغيان.

لقـد حـول الأمه الفردية إلى هـم اجتماعي، وكانت هذه الآلام مصدر إبداعه، موظفاً في ذلك حتى السخرية المرة الجادة، المبتعدة عن المجانية، ولهذا فهـو شـاعر يعي عصره وأدواته، وهذا ما جعله يكون بين وادي السرحان وسـد الـصين حدائـق متنوعة، مـن إبـداع جـاد، وحياة لا تلين.

إن قوة الروح لديه متمردة كوردة، ومتجردة كسيف، وجياشة كبركان، ولهذا تحققت في فضاء المكان الخاص امتداداً لـوطن شاسع يقول من قصيدة "حبذا جبل الريان":

بوركت يـا وطـن الأحـرار مـلـتفعاً

بالغيـث حيـنا وبالنـيران أحـيانا

إنـه بهـذه الـروح المتمردة، وهـذا الجمال الفني، وهـذا الوعـي الوطني الصادق، استطاع أن يكـون مـن الأوائل بين أبناء جيله في أواسط القرن المنصرم، وكل ذلك بفضل العوامل الذاتية، لما يتمتع به من موهبة وإرادة، والعوامل الموضوعية، لما اكتنف حياته من شظف العيش، وألق الأحداث الجسام، وخيبات الأمل المتلاحقة يقول من قصيدة "أخاف":

أخاف أخـاف أن يخبو

لهيب العزم في صدري

وقد أمسى رماد اليأس

أكواماً على جمري

ولهذا حين ننظر إلى ديوانيه "لهيب وطيب" و"الله والغريب" وكل ما أبدع في المجالات الأخرى، نحس بأننا ننظر إلى وطـن تجسد على شـكـل فـنـي، يشتعل بنـبل المواقـف وجـمـال الكلمـات وقـوة الـسبك الفني.

لقـد كـان للإحساس بالغربة الأثر الكبير أيضاً في تكوينه النفسي والجمالـي مـمـا جعلـه يتسلح بثقافة عالية، وجهـد شـديد، واحترام يقظ، للغـة والـرؤى. ولعـل هاجس الموت شكل، هو الآخر، تأثيراً إيجابياً ليتصاعد التمرد لديـه ضـد حياة تتوالى فيها الخيبات الفردية والجماعـيـة علـى صـعيد الأحـلام الوطنية والقومية بـل والإنسانية. ولكي يخفـف مـن تهشم الأحـلام كـان يـرجع دائماً إلى طفولته مقتبساً منها لهيباً حالماً يغذي روح الجمال والتمرد لديه.

لقـد أحسـست بـأن روحـه تتجلى في طفـولة متألمة وقصيدة متأججة، لذلك كان التمرد لديـه هـو البوتقة التي تألق فيها هـذان العاملان اللذان منحا هـذه الـروح شـكل تكوينها الذي تلمسناه في مجمل إبداع هذا الشاعر المتميز. وفي هذا المجال لا بد من الالتفات إلى الدور الفاعـل للـمـرأة في حياة الشاعر وإبداعـه وهـو يـراهـا، ثم يجسدها مكافحـة، شـجاعة، مخلصة، وفية، صابرة، متمـردة وعاشقة نبيلة، ولعل صورة الأم كانت من أوضح الصور وأشدها تأثيراً لديه.

لقد ترعرع الشاعر مـع الـناس، وعـايش أخلاقهم، وأنمـاط تفكيرهم، وجهادهم، وهمـومهم وأغانيهم، وصبرهم على المحـن وعفتهم، وإباءهم، وإيثارهم للفقر على الذل والمهانة، وحبهم للحرية، وكـرههم للمستعمر. وكـل هـذا غـذى مـواقفه وأنـضج كـوكب مجازه، فكان شاعراً في الحياة، وحياً في القصيدة، حتى أنه وظف الغنائية، والسخرية المـرة أحياناً، في إنارة الواقـع وكـشـف عـيـوبه الطبقية.

إن "لهيب وطيب" هـو التجسيد الأمثل، على ما أعتقد، للـروح الوثابة الثائرة من بين ما كتب من شعر وغيره، ويمكن أن نعتبر هذا منجز شباب وطفولة ثائرين، في مرحلة وطنية استثنائية، ثم إن المصداقية التي يتميز بها الشاعر كان لها الأثر الأكبر في تكوين مجمل تجربته الحياتية المتمردة التي تمسكت بالكرامة الشخصية، وهذا ما جعله يتفرغ للكتابة، ويتشرد في أصقاع الأرض، فيهتف في آخر أيامه وهو مهاجر في الصين، بشوق لاعج من قصيدة "الله والغريب":

يا رب لا تغمض جفوني هنا

هنا قلوب الناس بيضاء

وأرضهم ماء وأفياء

لكن بي شوقاً إلى أرضي

لجبل الريان والساحل

ألقي عليه نظرة الراحل

أخيراً إن قصيدة الشاعر جسده وروحه، ولهذا سنبقى، على الرغم من حيله نقتبس من جمال روحه المتمردة جمرة إثر جمرة، في كل ظلمة مفاجئة، أو موقف يتطلب قسطاً من شجاعة قلوب، مثقلة بهموم وأمل.

----

الكتاب: الله والغريب، مختارات سلامة عبيد

الناشر: اتحاد الكتاب العرب