يبدأ الفنان التشكيلي الإسباني سلفادور دالي (1904- 1989) كتابه: (الحياة السرية): "في السادسة من عمري، أردت أن أكون طباخاً، وأردت في السابعة أن أكون نابليون. ولايزال طموحي يزداد منذ ذلك الحين..".

ذلك الطموح الذي بقي يدفع دالي ليصير من رموز الحركة التشكيلية والفنية العالمية، على مدى عقود طويلة- ولايزال- وفي هذه السيرة الشخصية التي وسمها بالحياة السرية، لم يقدّم دالي نفسه كقديس كما يحصل في أغلب السير الشخصية للكثير من المبدعين في العالم العربي تحديداً، وإنما سيفاجئ دالي قراء سيرته بالكثير من الحماقات والحالات العدوانية التي كانت تنتابه، بل والكثير من حالات الغرابة في الأطوار ومن حالات الخوف والجبن والانتهازية وغير ذلك. يبدأ دالي حياته السرية، بذاكرة متخمة تبدأ من داخل الرحم، ثم الولادة، وبعد ذلك بذاكرة الطفولة الزائفة والحقيقية. وفي القسم الثاني، يروي عن مراهقته، ومراحل دراسته، وموت الأم، والرحلة إلى باريس. وفي القسم الأخير، يحكي عن دوره الريادي في الحركة السيريالية، وعن مدن أحبها، أو كرهها، كما يحكي عن بشاعة الحرب، ونشأة الكون، والتحول، وكذلك عن الموت والبعث.

سيرة انجدلت فيها الحياة الشخصية التي سردها على شكل قصص قصيرة، مع ذاكرة طفولية وصفها بالزائفة، وذاكرة طفولية حقيقية، وصولاً لمشاركته ومنصبه في اتجاه ومدرسة السوريالية، المعلم الفني، أو المذهب الإبداعي الأشهر في تجربة هذا الفنان العالمي، الذي لم يخجل من الحديث طول الوقت عن تأثره الكبير بفنان عالمي هو الآخر رفائيل واسمه الكامل رفائيلو سانزيو، الذي سيبقى يتحدث عن أعماله، كمثال للكمال الفني.‏‏

ولعلّ أكثر ما يُدهش في هذه "الحياة السرية"، التي تجاوزت الخمسمئة صفحة؛ تلك الذاكرة الفياضة التي تسفحُ أدراجها بشكلِ مشاهد ملونة وغنية، وكأنّ الفنان هنا يقدّمُ لوحاته بحوامل وأدوات أخرى غير اللوحة والألوان والريشة، وإنما هذه المرة، تكون أداته هي الكلمات التي يُصوّرُ من خلالها تلك المشاهد البعيدة، لنلاحظ كيف يصف جدته على سبيل المثال: "كانت جدتي؛ نحيلة مشابهة لبكرة خيوط بيضاء صغيرة"‏‏.

وفي كلِّ ذلك كان مسعى هذا المبدع، لأن يصبح بامتياز الأنموذج الأولي للشخص المختلف جداً - كما يذكر - والمنحرف بعدّة أشكال، والمحافظ أيضاً على ذكريات الفردوس المثير للرضيع من دون أن تمسَّ تقريباً، بمعنى الإبقاء على ذلك الطفل البعيد الذي سيأتي بالتلقائية المبدعة طول الوقت بمنتهى الحبِّ والإثارة، وما وصل إليه من موقع لن يبدله مع أي شخصٍ آخر في العالم معاصر له أياً كان هذا الشخص كما يؤكد بحدّةٍ وغرور.‏‏

ودالي في هذا المجال، يُفرّق بين الرجال، ويضع نفسه في خانة الرجال الثانية، حيث الخانة الأولى التي يقبع فيها الرجال أحاديو الاتجاه، وبرأيه هؤلاء ذوات عقول تحترق بنار محاكم التفتيش. وأما العقول الفوضوية، فهي متعددة الأشكال، لأنها هكذا بالضبط، فقد وجدت في صورة تلك النيران لأزهار تشكلها الروحاني الفرداني الأخضر. ودالي أيضاً منذ البداية، يؤكد أن كل ما يقوله في هذه السيرة، هو تماماً خطؤه الشخصي. وحتى ختام السيرة بقي يعتقد أن الفن يجب ألا يكون وسيلة لكسب العيش، بل مجرد استرخاء للروح، حيث يُكرس المرء نفسَه لها عندما تسمح أوقات ظروفه.‏‏

وفي بعض انعطافات تجربته، يذكر: في موعد الإفطار، الذي كان يُقدّم لي وحدي على طاولةٍ في غرفة الطعام الكبيرة. كان ثمة قطعتان كبيرتان من الخبز المحمص المنقوع بالعسل، وكوب من القهوة الحار جداً مع الحليب، وكانت غرفة الطعام مغطاة بالكامل بلوحاتٍ زيتية ومنحوتاتٍ ملونة أصلية، كان قد رسمها "رامون بيشوت" الذي يعيش في باريس حينها. لقد مثّل ذلك الإفطار اكتشافه لمدرسة الرسم الانطباعية الفرنسية، والتي تركت أعمق الأثر في حياته لأنها جسدّت أول اتصال له مع النظرية الجمالية الثورية واللاأكاديمية. فلم تكن لديه البصيرة الكافية ليرى ما أراد أن يراه في تلك الألوان الكثيفة والملطخة عديمة الشكل، والتي تبدو وكأنها رُشقت على لوح الرسم بالصدفة بأكثر الأشكال نزوية ولامبالاة. ومع ذلك، فعندما ينظرُ المرء إليها من مسافةٍ معينة ويرمش بعينيه، يمكن فجأة، بفضل المعجزة غير المفهومة للرؤية، أن يصبح خليط الألوان هذا منظماً ويتحول إلى واقعٍ نقي.‏‏

ويضيف في بعض تفاصيل هذه "الحياة": كنت أفكر كيف استطعت، قبل أن أصل سن البلوغ، أن أخلص نفسي من عجز المراهقة الحالم، فقد كنت مدركاً بشكلٍ استثنائي لشيءٍ واحد- على العمل عبر الفن التكعيبي - كي أخرجه من نهجي مرةً واحدة وإلى الأبد، وربما أستطيع خلال هذه الفترة أن أتعلم الرسم على الأقل. وحينها فقد بدأ الرسم في غرفته بأولى لوحاته التكعيبية التي تأثر من خلالها بشكلٍ مباشرٍ ومقصود بخوان غريس، والتي كانت أحادية اللون ميزته تقريباً؛ حيث في التكعيبية يكون عنصر التمثيل واضحاً جداً، وبعد ذلك لم يتمكن الأساتذة من إجباره على أن يكون فناناً بالفطرة، وقالوا: إنه غاية في الجدية، وينجح في كلِّ ما يحاول فعله، لكنه باردٌ كالجليد، وعمله يفتقد العاطفة، ويتصرف وفقاً لعقله، ومن هنا ربما ينفع أن يكون مفكراً، لأن الفن لابدَّ أن يخرج من القلب.‏‏

غير أن ما سيُغير من ذهنية هذا الفنان المفعمة حياته بالغرائبية؛ هو وجود غالا في حياته، تلك المرأة التي كان مجرد وجودها الحسي بجانبه أمراً بمنتهى الإغواء، وقد صار محط اهتمام المجتمع الارستقراطي الأوروبي؛ الأمر الذي جعل أعداءه يتبرعمون كالفطر، وفي جميع الاتجاهات باستثناء غالا، وهو ما مهّدَ لظهور السوريالية التي كان أحد أقطابها في المشهد التشكيلي العالمي.

يقول: كنت أنظر إلى أوروبا من منارة الحرية ذات الألف واجهة، تجربة حياتي المشوشة كلها، وثورتي السريالية في باريس، وفترات عزلتي المعذبة والزاهدة في إسبانيا، ورحلاتي الجمالية إلى إيطاليا، اتضحت كلّها صفاءً موضوعياً يأتي من المسافة والحكمة العاطفية لوجهات النظر المأساوية.‏‏ وهو في كل ما يذكر، يميل دالي دائماً إلى أن لا يقدم تفسيراً لمعنى لوحاته، كتب ذات مرة: "حقيقة كوني أنا نفسي في لحظة الرسم لا أفهم صوري، لا تعني أن هذه الصور بلا معنى، على العكس، فمعناها يبلغ في العمق، التعقيد، التماسك واللاإرادية، بحيث تفلت من أكثر التحاليل بساطة للحدس المنطقي".

كتب سلفادور دالي يوم هذه (الحياة السرية )، عندما كان في السابعة والثلاثين أي سنة 1941، وحين أنجزها يختم بالقول: أنا عارٍ تماماً ووحيد في غرفتي، أنهيتُ هذا الكتاب الطويل عن أسرار حياتي، لأن هذه هي الحياة التي عشتها؛ هي التي تمنحني سلطة ليتم سماعي.‏‏

----

الكتاب: الحياة السرية

الكاتب: سلفادور دالي

ترجمة: مُتيّم الضايع

الناشر: دار الحوار، اللاذقية