عمل الناقد الدكتور إبراهيم الجرادي في اختياره لكتاب "سليمان العيسى الياس أمل يستنسخ أوصافه" على تفتيت الأفكار والرؤى الإبداعية التي يتمتع بها الشاعر بوصفه ناقداً وشاعراً ذا عمق بالخيال والأزمنة التي عاصر بها الشاعر.

يؤكد الجرادي إعجابه بإبداع "العيسى" أنه كيف يكتب شاعر منعم بالظن، يصارح اليقين بارتيابه، عن شاعر راسخ في اليقين، يعكف على آلامه وآماله كالنساج يحوك كبينيلوب رداء الغياب، بخيوط تتدلى من شمس تغيب، هناك في أفق المجاز، المجاز الذي نريد أن نوقظ به أسياد الغفلة والمكيدة، كيف يكتب شاعر شكاك، مريب ومرتاب، ما زالت رائحة حزيران، وما استولد من حزيرانات، وكوانين، وتشرينات وآذارات، في ثيابه وجلده، كيف يكـتـب شـاعر ينـزوي في شـوك يأسـه كالنيص، يدعو إلى الفوضى وحكمتها، يتأمل مقيل الضاد، ليرى ما يرى، ويسمع ما يسمع، ويكتب، ليشطب، ويشطب، ويشطبان عن شاعر.

إذا اعتكف، يعتكف في بيت اليقين وهو واسع كالحيلة، وإذا انـزوى ينـزوي في مربض خـيـل الأهـل، لا يرى العافية إلا في علة المعافى التي ستزول، حتماً، مع أول لمسة للتاريخ العظيم.

بهذه المقدمة الإبداعية الشاعرية حاول الناقد والشاعر الدكتور إبراهيم الجرادي أن يرد على أسئلة أرادها الشاعر في أمله الذي استنسخ أوصافه منوهاً أن الشاعر يشبه شعره وذلك أنه محبوك بلين، منضبط دون صرامة، عاقل وعرفاني، معاد للزينة الفائضة وعـزوف عـن مظاهـرها، وشعره، عمـومـاً مجـند رابح في معارك الخسران المتوالية، تلك المعارك التي لم يعرف توقيتها، ولم تسعفه نهاياتها السريعة في تسمية رجالاتها، الذين يلهثون، يلهثون فقط بمعارك النصر المؤجل، وقد أعيتهم المكائد، وقد أشرفت على حدود الإتهام، الذي لا يدق أجراساً، ولا يستوقف شعراً.

سليمان العيسى وريث النكبات وشاعرها، بدءاً من نكبة اغتصاب لـواء اسكندرون، المعروف باللواء السليب، وليس نهاية النكبة الثانية كما يصفها هو أيضاً اغتصاب فلسطين، ليعطي لحالتي الاغتصاب مدلولاً أخلاقياً لفعل شائن، يريد له أو كأنه يريد له أن يستنهض القيم المتوارثة التي سقطت سهواً بالاكتساب، ومرغت عمداً بوحل المذلة.

المرأة في شعر سليمان العيسى واحدة، وأظنها في حياته كذلك. وشعر سليمان العيسى يتحاشى مصادر الغـواية، التي ألفناها بالشعر العربي القديم، وفي الشعر العربي الحديث، كما عند محمود درويش، وسعدي يوسـف وأدونيس وغيرهـم، ولا تظهـر في شـعره شـعر الكهـولة والـصبا أيضاً أي اسـتدراجات لمكـامن التفـتين الشعري، أو الإحاطة الأنثوية، اليدان، فقط اليدان، تظهـران وجداً عالياً وحنواً شديداً، يلفان الشاعر الملتحف دائماً دفئهما، ويرفوان جسده البردان دائماً، بخيوط شمسهما العمودية، ولا شيء غير ذلك.

في شعر سليمان العيسى وصاية ليس على الزمان، بل على المكـان وثرواته، وليس على مصير جماعته البشرية فحسب، بل وصاية على ثروات المرأة، لذلك ربما يظل حضورها متعالياً على جمـوح الـشعر، وعلى وظائفـه أو بعـض وظائفه، في اختراق العفة وهي وإن تبدت أحياناً، تظهر كضربة حجر صغير في ماء سائر، إنـه يـزيـن وجـده بالظاهـر، وكأنـه مـن سـلالة الوصـافين المعروفين بالتاريخ العربي بالعـذريين، فالدور الأكبر للهـوى والعشق، هو غير الغاية في الكمال، ولا الموصوف بالبراعة وسواها، حتى وإن سئل العاشق عن حجته في ذلك لم تتم له حجة، كما يرى الجاحظ.

أخيراً إن سليمان العيسى يكتب ليرتاح يقينه، وهو يقين ثابت، لا تردد فيه ولا ترددات، بأن هذه الأمة ستحقق شروط وجودها الإنساني، ولهذا يكثر في شعره مـن اللـوازم الوسيطة التي تقرب الهدف، وتسعى إلى المعاني التي تحث في هذا الاتجاه الذي يقوم لديه على مواصفات منها الوضـوح والعفـوية، والقراءة الـتـي تنـصـف شـعره، ليـسـت قـراءة في التكنيك، كـونه دراسـة في الوسائل، وإنمـا في الغايـات. وثمـة مدخلان، همـا مـن أكـثـر المـداخل إنصافاً لشعر سليمان العيسى، أولهما أن ينظر إلى شعره كما ينظر هو إليه، أداة جمالية لهدف أعظم، أي أن أهمية الشعر ليست في طريقة قوله، وإنما في ما يقول، وثانيهما قراءة شعره بالمعايير نفسها التي حددتها المعايير الأدبية التي نشأ عليها. وفي النهاية إذا كـان هـنـاك مـن تـمـرد مـشـروع على الأوصـاف المعروفة لشعراء الكلاسيكية الجديدة في علاقتهم مع المحمـولات للسياسة القائمة، فهو سليمان العيسى.

----

الكتاب: سليمان العيسى، اليأس أمل يستنسخ أوصافه

الناشر: اتحاد الكتاب العرب