على مدى ست روايات كتبها روائيون من مختلف جهات هذا العالم أحدهم روائي عربي، يُلاحق الشاعر والمترجم السوري ثائر زين الدين شخصية قادمة من الموروث الديني. شخصية إشكالية حتى في النص الديني نفسه ومختلف عليها حتى من وجهات نظر رجال دين، ربما من هنا لاتزال إلى اليوم تُثير كلّ هذا الجدل والسجال بين أكثر من طرف ومنذ أكثر من ألفي سنة.

طرفٌ يراها شخصية تحملت عبء "فداء" مستمر لإتمام رسالةٍ سماوية، لكن من وجهة نظر فعل الخيانة والغدر المرسوم لها كقدر، وطرف يجد أنها تُشخص الشرّ كله والغدر كله.

هذه الشخصية هي "يهوذا الأسخريوطي" الذي وحسب أكثر من رواية دينية وشى بالمسيح لملك اليهود والحاكم الروماني في فلسطين بمقابلٍ بائس "ثلاثين من الفضة". هذه الشخصية التي لها الكثير من مثيلاتها في ديانات كثيرة بعضها ما يُعتبر ديانات سماوية، وبعضها الآخر ديانات وثنية، وذلك في الكثير من السرديات الدينية على مدى مرور كلِّ هذا التاريخ. تلك الشخصية التي يحتار القارئ لها بين أن يُنظر إليها على أنها "الخيانة" الصرفة المُجسدة بكائنٍ بشري، أو هي الشخصية "الفادية" التي وقع عليها "تمثيل" هذا الدور لإتمام الأمر الإلهي المكتوب لها كهدفٍ سماوي. ومن ثمّ كان عليها تحمّل كل هذه "اللعنات" على مدى الأيام.

هذه الشخصية التراجيدية والمُفعمة دراما، شكلت إغواءً للعديد من الكتاب والمبدعين، وفي مختلف مناحي الإبداع: الشعر، التشكيل، السينما، والمسرح وغيرها. غير أن الدكتور ثائر زين الدين، يُلاحق تشكلها الروائي في ست رواياتٍ عالمية، ومن خلال رؤية كل روائي في إعادة تشكيل تلك الشخصية الميثولوجية روائياً بناء على ذلك السجال والجدل اللذين لم ينتهيا يوماً، وذلك لدى كل من الروسي ليونيد أندرييف (1971- 1919) في روايته التي أخذت الاسم الإسخريوطي نفسه واكتفت به تحت عنوان "يهوذا الإسخريوطي"، والروائي المصري نجيب محفوظ (1911- 2006) في روايته "أولاد حارتنا"، والروسي أيضاً ميخائيل بولغاكوف (1891- 1940) في روايته "المعلم ومرغريتا"، والروائي اليوناني نيكوس كازنتزاكي (1883- 1957) في روايته ذائعة الصيت "الإغواء الأخير للمسيح"، وكذلك الروائي البرتغالي خوسيه ساراماغو (1922- 2010) وفي أحدث الروايات صدوراً؛ رواية "قبلة يهوذا" للفرنسي أوبير برولونجو الصادرة سنة 2004. تلك الرؤيات الست لهؤلاء المبدعين قرأها زين الدين في كتابه "شخصية يهوذا الإسخريوطي في نماذج روائية" الصادر عن دار صفحات بدمشق.

ومن وجهة نظر الناقد زين الدين، فإنّ نجاح أي عمل روائي، هو قدرته على بناء شخصيات روائية بغض النظر عن نوع العمل الروائي، وعن أشكال السرد التي ينهض عليها، ومن ثمّ كان سر تعلقنا بهذه الرواية أو تلك، وحبنا لها دون سواها إنما يكمن قبل كل شيءٍ في قدرتها على خلق شخصيات فاتنة، شخصيّات مُقنعة. بل إنّ أساس القصة الجيدة – على ما يرى الكثيرون- يكمن في إبداع شخصية ليس غير. رغم كل وزن الأسلوب. وشخصية يهوذا الإسخريوطي القادمة من التراث الديني، اشتغلت عليها الكثير من الروايات في غير قليلٍ من الثقافات، فقد استدعاها الروائيون منذ زمن طويل، واشتغلوا عليها في فضاءاتهم الروائية المختلفة، تارةً باسمها الصريح، وفي زمنها التاريخي المعروف، وتارة باسمها الصريح، لكن في زمن مُغاير لزمنها، وثالثة بأسماء مُستعارة وفضاءات وأزمان بعيدة عن تلك التي عاشت فيها الشخصية. وبتقدير زين الدين، لعلّ الدافع الأهم لهذا الحضور اللافت ليهوذا في الأدب عموماً، والرواية خاصةً، هو اكتناز هذه الشخصية بالمعاني والدلالات، ولا سيما أنها ارتبطت بقضايا وجودّية إنسانية ومُتكررة في التاريخ البشري، وهو ما جعلها قادرة على عبور زمنها إلى أزمنة أخرى وبيئتها الجغرافية إلى بيئات أخرى، وهي شديدة الغنى، وطافحة بالإشكاليات والغموض وقابلة لقراءات هائلة مُتباينة، ما يجعلها شخصية روائية بامتياز.

ويهوذا واحد من تلامذة السيد المسيح الأثني عشر ذكرته الأناجيل كلها على أنه الشخص الذي سلم المسيح لرؤساء الكهنة وقواد الحرس إلى مصيره في الصلب. غير أن "الإشكال" – وكما تذكر كل الأناجيل- أنّ السيد المسيح كان يعلم حقيقة يهوذا، وما هو مقدم عليه، ومن ثم لينتهي يهوذا بميتة شنيعة معلقاً على شجرة تين منتحراً وقد أكله الندم، فيما المسيح ينتهي – في آخر مشاهده- مصلوباً. وفيما بقي المسيح فادياً للبشرية، بقي الإسخريوطي ملتبساً بين شخصيتي الخيانة، أو الشخصية التي لعبت دور الخيانة فداء ملتبساً.

أنهى ليونيد أندرييف رواية "يهوذا الإسخريوطي" أوائل سنة 1907، وهي رواية قصيرة لا تتجاوز التسعين صفحة، حيث تتربع هذه الشخصية على عرش العمل، وتظل الشخصيات الأخرى كلها ثانوية حتى اللحظة الأخيرة بما فيها شخصية يسوع المسيح، ومع ذلك فالروائي ساير الرواية الإنجيلية، ولم يخرج عنها إلا قليلاً لكنه ركز مطولاً على هيئته الخارجية وارتباط كل ذلك بدواخله في محاولة كشف جوانب خفية من شخصية يهوذا. فيما تبدت هذه الشخصية في رواية "أولاد حارتنا" عند نجيب محفوظ متوارية من خلال العلاقة الرمزية بين "رفاعة ويسوع" أحد فصول الرواية التي أخلصت للمرجعية الدينية والتي ينهض بدروها شخصية "ياسمينة" التي ستقوم بدوري مريم المجدلية ويهوذا معاً، تلك الشخصية التي يراها زين الدين أنها كسرت أفق توقع القارئ لاسيما بمزجها بين صفات المجدلية ويهوذا، وخرجت بالنتيجة عن سيرة كلٍّ منهما منفرداً. فيما كتب ميخائيل بولغاموف رواية "المعلم ومرغريتا" أقرب لأن تكون وصية الكاتب الإبداعية، حيث بدت شخصية الإسخريوطي وحيدة الجانب فقيرة بالمقارنة مع شخصية بيلاطس الدراماتيكية. أما في "الإغواء الأخير للمسيح" فنجد هذا الجدل الواسع في شخصية يهوذا عند نيكوس كازنتزاكي، وهو ما أدى لمنعها من قبل الكنيسة الكاثوليكية، وأدرجها البابا ضمن لائحة الكتب الممنوعة سنة 1954. في هذه الرواية تحضر شخصية يهوذا بصورة طاغية وتمتدُّ على معظم صفحات الرواية، وخلالها تؤدي شخصية يهوذا دوريها: المعنوي والفني؛ فقد استطاع كازنتزاكي أن يخرج من أعماقها ما لا يخطر على بال، وقد تأثرت بتجربته هذه معظم الروايات التي عالجت قصة المسيح فيما بعد. ورواية "الإنجيل يرويه المسيح"، هي واحدة من أهم أعمال خوسيه ساراماغو، أو"إنجيل ساراماغو" كما أطلق عليها الكاتب نفسه؛ هي محاولة لملء المساحات الخالية بين الحوادث المختلفة التي جرت في حياة المسيح من خلال بعض التأويلات الشخصية للكاتب. وإعادة كتابة سيرة المسيح مستفيداً من الأناجيل الأربعة وكتب لاهوتية قديمة. فيما تقع رواية "قبلة يهوذا" للفرنسي أوبيربرو لونجو في جزأين ضخمين، تنفرد في الجزء الأول شخصية يهوذا ببطولة مطلقة والتي ستختلف قراءتها عن كلِّ ما سبق من روايات حيث قدّم الروائي يهوذا بطلاً يُجاهد في الوصول إلى هدفه، إلى أن يخسر في النهاية صراعه مع إيمان المسيح بفكرته، وهو ما يقوده إلى خاتمته المأساوية.

في تحليله الموسع لقراءة هؤلاء الكتاب لشخصية يهوذا، يعطي ثائر زين الدين المتلقي فضاء واسعاً من التأمل لإعادة النظر في الكثير من الأمور التي كنا نظن أنها وقد أمست من المسلمات، وإذ بها تأتي حادة تخلخل الكثير من وجهات النظر لا سيما المتعلقة بين مملكة الإيمان السماوية، ومملكة العدل على الأرض، وأيهما أولى بـ "الإقامة" أولاً في حال ظهر تعارضٌ ما، بين الاثنتين. ربما لنصل إلى وجهة نظر ثالثة: "بدون الرب يفقد العالم أساسه، لكن بدون العدالة لا يُمكن إقامة حكمه".

----

الكتاب: يهوذا الأسخريوطي

الكاتب: د. ثائر زين الدين

الناشر: دار صفحات، دمشق