يستحضر بيير دريو لاورشيل في رواية "يوميات رجل مخان"، سرداً مفعماً بالذكريات وأحلام اليقظة العاطفية، ليسرد من خلالها سيرة حبٍّ هي عجزٍ أو تتقهقر في أن تصل إلى خواتيمها، وإنما هي قصص حب مشكوك في صفائها، دائماً ما تقف أمام حاجز الشك، أو حاجز الريبة والحيرة.

غير أنّ هذه اليوميات التي يختمها الكاتب في 10 أيلول، كانت قد بدأت في 1 تموز بـ: "إنني راحل"، ثم تتوالى اليوميات في سردٍ لحكاية هي أقرب إلى القصة المتوسطة، أو "النوفيلا"، منها إلى الرواية، كما عرّفت عن جنسها على غلاف الكتاب. هنا ثمة سرد سيختلف كثيراً، ويذهب بعيداً عن السرد الروائي المعتاد، أو المُتعارف عليه. فلا وصف شاعري طويل، ولا شخصيات نستطيع تبيان ملامحها بدقة، ولا حتى أحداث واضحة المعالم، وإنما هنا مونولوج ونجوى طويلة، يسردها راوٍ مغفل الاسم طول الوقت، في سيرةٍ أشبه بالذاتية تتماهى بين الرواي السارد، والروائي الكاتب؛ حيث الرواية هنا ليست الأحداث، وإنما الطريقة التي تشابكت بها الأحداث فأفضتْ إلى هذه المصائر. هنا ثمة راوٍ والكثير من النساء مررن خلال "ترحاله"، وربما أحبهنّ جميعاً، لكن ثمة شك إن كنّ موجودات على أرض الواقع فعلاً، أم هنَّ لسن سوى أكثر من أطيافٍ لنساء يشك أنهن جميعاً قمن يخيانته، ربما لأجل ذلك يعنون الرواية – اليوميات بـ "يوميات رجل مُخان"، وربما تكون هي الكتاب الأول الذي يُترجم إلى العربية للروائي الفرنسي (بيير دريو لاروشيل 1893 - 1945)، بترجمة ومقدمة رائعتين للشاعر والمترجم اللبناني إسكندر حبش.

برأي حبش في مقدمته للرواية، فإنّ أدب لاروشيل يُعدُّ واحداً من أهم النصوص الأدبية في زمن ما قبل منتصف القرن العشرين، اشتغل لاروشيل صحافيّاً وقاصّاً، وكتب المقالة، كما أمسى ذات حينٍ رئيس تحرير (المجلة الفرنسية الجديدة) التي لا تزال تصدرها دار غاليمار كأكبر مجلة أدبية في فرنسا إلى اليوم.

وفي العودة إلى رواية "يوميات رجل مُخان"، والتي لا يُماثلها عربيّاً من حيث السرد الروائي الذي اتخذ شكل اليوميات سوى (كوابيس بيروت) للروائية السورية غادة السمّان، ومن غير المعلوم إن كانت السمّان قد اطلعت على هذه الرواية أم لا. راوية "يوميّات رجل مُخان"، وكما في كل كتب وسرديات لاروشيل، تسعى للإجابة عن ماهية سؤال: ما هو الحبّ؟ حيث يسعى في كل تفاصيل هذه اليوميات للإجابة عنه وذلك بمحاولة تعريف الحب، وإن يبدو الأمر عبثيّاً في كلِّ محاولة، غير أنه يحاول أن يحفر عميقاً في الجوانيات والدواخل النفسية ليصل إلى ما يُشبه المقاربات التي يوجزها بمقولات أقرب إلى حكم، أو أقوال مأثورة. يذكر في إحدى يومياته (23 آب): "وصلتُ إلى سنّ الأربعين من دون أن أحظى يوماً بعلاقة غرامية دامتْ لأكثرِ من ستة أشهر، ومن ثمّ من دون أن أعرف المرأة فعلاً".

إذاً، ثمة عطبٌ، يجعلُ الحبَّ دائماً على حافة الخراب بين الرجل والمرأة، ودائماً في حالة استحالة الاستمرار، وكأنَّ الحبَّ أمرٌ سريع العطب، سرعان ما يُمسي غير صالح، أو يتمّ مسيرته ليصل إلى خواتيمَ مقبولة.

أكثر ما يذكر الرواي (نيللي)، وإن كان في أحيانٍ كثيرة في سبيل المقارنة مع نساء كثيرات: غلوريا، برالين، روزيتا، صوفي، ماريّا، بايل، فاني، مورييل، جان، وغوين. إذاً أين يكمن هذا العطب؟ هل في الطريقة التي نحب فيها؟ يكتب في يوميات (23 آب): "أنا وحيد في هذا العالم.. شبحٌ لا يمسُّ أحداً، ولا يلمسه أحد.. لقد أحبّت شيئاً فيّ – يقصد نيللي – تعلقت به، وأن تُحب كائناً هو وقبل أي شيءٍ آخر، أن تُحب شيئاً خاصاً فيه – لا كله. من هنا ربما نتفهم حبّ الرجل لأكثر من امرأة، وحبّ المرأة لأكثر من رجل، يُشبه الأمر غواية ثمار فاكهة مختلفة لأشجارٍ متنوعة. هنا ثمة فضول لاكتشاف طعم الثمار، ومن ثمّ الغرام بنوعٍ واحد أو الوقوع بحبّ أكثر من نوع، وهذه (نيللي)، التي لا تتلقى متعتها، وإنما تسعى دائماً لانتزاعها".

يقول في (2 آب): "في كل مرة أفتح فيها هذا الدفتر، تقعُ عيني على إحدى الحماقات "المتعة متعددة مثل الحشد"، أنصرفُ من هنا، هناك إذاً العديد من الرجال الذين يعرفون كيف يشعرون النساء بالمتعة؟ كلا، ولكن يكفي أن يكون هناك اثنان أو ثلاثة". وبالنسبة إلى نيللي، كان العالم لديها ثلاثة رجال جديرين بأن يعطوها هذا الدفع الذي كانت تعرف كيف تستولي عليه جيداً: أنا وجاك والآخر.

يوميات لاروشيل، تتنوّع في طولها، كأن تأخذ ثلاث كلمات مثل ما كتبه في (9 آب): "نيللي تُحبُّ كلَّ الرجال"، تاركاً للتأويلات النفسية أن تأخذ مداها في رسم الحالات الجوانية للراوي، أو قد تُصل إلى ما يتجاوز الصفحة، قد تبدو للوهلة الأولى أنها منفصلة، غير أنّ الترقيم هنا لا يعدو أن يكون، هو الآخر، سرداً من نوعٍ مختلف، أو قل هو السرد بصمت الذي يُشكله البياض بين هذه اليوميات والذي يمنح للتخييل مداه في التأويل في قراءة النص الموازي.

يصف إسكندر حبش أدب بيير دريو لاروشيل، أنه يجمع بين طيّاته بعض الثيمات التي لم يتخَل عنها طيلة فترة حياته القصيرة نسبيّاً، وهي انهيار بعض القيم البورجوازية، وتجربة الإغواء، والتزام الكاتب بقضايا عصره. وقد جاءت هذه الموضوعات عبر ما سمّاه "الوهم الوجداني" والقسوة اليائسة، ما يقود الكائن إلى الانتحار للتطهر من هذا العالم. هذه هي الموضوعات التي نجدها في كتبه: "غير المتوازن، كوميديا شارلوا، وجيل". وحين نشر كتابه هذا سنة 1934، كان لا يزال جمهوريّاً، وقريباً من الاشتراكيين، ومن أصدقائه: أندريه مالرو، ولويس أراغون، وكان يتردد على النخبة المثقفة في باريس. ويُضيف حبش: لا يُمكننا سوى القول إنّ من لم يقرأ "يوميات رجل مُخان"، لا يُمكن اعتباره يعرف أدب لاروشيل جيداً، مع إضافة كتابين آخرين هما: "ملاحظات عن رواية الحياة الجنسية، والرجل المُغطى بالنساء". كتب تشترك في طرح سؤالٍ كبير: ما هو الحبّ اليوم بعد العاصفة الجسدية في الأيام الأولى؟

----

الكتاب: يومياتُ رجلٍ مُخان

الكاتب: بيير دريو لاروشيل

ترجمة: إسكندر حبش

الناشر: دار دلمون الجديدة