يجسد المفكر العربي محمود أمين العالم ضمن دائرة وعي الواقع العربي قضايا متنوعة بالفكر والفلسفة في كتابه "معارك فكرية"، طارحاً فيه أكثر من ستة عشر موضوعاً إشكالياً في الفلسفة والعلم والحرية وفي التطبيق الاشتراكي.

يرى محمود أمين العالم أنه لا الفترة الزمنية، ولا الموضوع، ولا المنهج المحدد، يجمع بين المقالات، وهي تمتد عبر خمسة عشر عاماً مـن عـام 1950حتى 1965 بتنوع الموضوع في الفلسفة، والعلـم التجريبي، وعلـم النفس، وفي التراث القديم والحديث. ويختلف اختلافاً شديداً في منهج كتابتها، منها تحليلية وقد تكون تقديماً لكتاب أو تعليقاً عليه، أو تأملاً عابراً في قضية من القضايا. ورغم هذا التنوع والاختلاف في الموضوع ومنهج المعالجة، فإن تلك المقالات يكاد يضمها معنى واحد وهو "بلاش فلسفة".

حين يناقش الكاتب أحد عناوينه وهو "بلاش فلسفة"، يشير بوضوح أنه حذار الخـداع مؤكداً ما عرف شيئاً أخطر على مجتمعنا الجديد من هذا التعبير "بلاش فلسفة".

لكل منا فلسفته، ومسلكه في الحياة، إزاء عائلته وعمله ومجتمعه ونظرته إلى الناس والكون، وقاعدته الـتـي يـزن بهـا الأمـور وزاويتـه الـتي يحكـم بهـا علـى أحـداث الحياة، والفلسفة ليست إلا هذه النظرة الشاملة، من خلال القراءة العفوية، والعلمية، وملابسات العمل الفني، من أحرار ومنافع، وانتصارات وهزائم، هناك أنواع من الفلسفة نعيشها دون أن ندري من أنصار سارتر، أو وليم جيمس، أو برجسون، أو ماركس، أو محيـي الـدين بن عربي، أو ابن رشد. وقد نتجه نحو الوجودية مثل عبد الرحمن بدوي، أو جوانياً مثل عثمان أمين، أو منطقياً مثل زكي نجيب محمود أو تكامليـاً مثـل يوسف مراد أو فـرويـدياً مثـل مصطفى زيور، وقد نكون تواكليـاً وإيجابياً، ومن أنصار الشطحات الصوفية، أو من أتباع الموضوعية العلمية، وفق الرؤية الفلسفية المتناقضة، وهي خليط من هنا وهناك وهـذا وذاك، لا يجمعهـا وحـدة واضحة، قـد تـكـون هناك حاجة للوقوف موقفاً نقدياً واعيـاً مـن هـذه الفلسفة.

إذا كانت الفلسفة ترفاً عقلياً خالصاً، فهي أبعد ما تكون عن الصدق الموضوعي وحيـاة النـاس. وإذا كانت الفلسفة تعقيداً لغوياً وخلافات شكلية، وتهميشاً على تهميش، دون حـل، تصبح حقاً الفلسفة تنكراً للإنسان، وعزلة عن الحياة، ولكن هي التقدم البشري، والتعالي على المصير، ومسؤوليات العصر وحقائقه، ومن فلسفات كهذه نشأت كلمة بلاش فلسفة حياتنا.

إن تراثنا العربي يزخـر بأرقى مـا وصـل إلـيـه الـفـكـر البـشـري مـن إضافات فكريـة وفلسفية. لقد استطاع وهـج الفلسفة العربية أن يضيء أوروبا في عصور الظلام، وأن يفجـر عـصـراً جديداً للنهضة الفكرية والفلسفية والعلمية والأدبية والفنية في أوروبا.

أيـن آثار هذه الفلسفة العريقة في حياتنا المعاصرة، أين امتدادها الحي في ضمائرنا ووجداننا وأفكارنا؟

إن ما تبقى منها رغم مياه دجلة، وحملات النهب والإغارة والإهمال والتشتت، كنور، ولكنهـا مطمورة خلف الدراسات الفقهية، والتهميشات الشكلية والتفسيرات البعيدة عن روح الجديد الدائم فيهـا.

هنـاك جهـود عظيمـة موفقـة قـام بـهـا المستشرقون وأساتذة وعلماء من العرب، لإحياء هذا التراث وتحقيقه ونشره، إلا أنه لم ينـل بعـد ما يستحقه من تفهم عميق وتفسير حضاري سليم.

إن الفلسفة العربية الإسلامية ليست مجرد صدى لفلسفة اليونان والرومان كما يقول البعض، وليست مجرد توفيق بين الدين والفلسفة كمـا يقـول البعض الآخر، وإنما هي تعبير عن أشواق عصر، واحتياجات حضارة، وقيم مجتمع جديد، إلى جانب تأثرهـا بالروافد اليونانية أو الرومانيـة أو الهندية أو الفارسية. شكلت الفلسفة العربية الإسلامية صـدى للحياة العربية أساساً، ومعركـة مـن مـعـارك الحضارة الجديدة، ولكن أين هذه الفلسفة من تاريخنا المعاصر، من بنائنا لحياتنا الجديدة؟

لم تصبح الفلسفة غذاء للحضارة، بل أصبحت صنواً لكل ما هو مغرب ملغز، لكـل مـا هـو معقد وشكلي ومعزول عن الحياة، فإذا عرضته على الناس كان من حقهم أن يقولوا بلاش فلسفة.

إن إحياء تراثنا الفلسفي القديم، لا يكون بتحقيق النصوص فحسب، بل باكتشاف مـا هـو جـوهـري وإنـساني جديد فيها، ليصبح هذا التراث رافداً من روافد فكرنا المعاصر، وغذاء لوجداننا. لأن المأساة ليست مأساة تراث قديم لم يتم "تقييمه" وإشاعته بين الناس، وإنمـا مأساة هذا التراث الفلسفي الحديث.

إن عـالم اليـوم يـزخـر بالعديد من الفلسفات، ولهـذه الفلسفات أصداء في مجتمعنا، وفي أفكارنا، وضمائرنا ومسلكنا الشخصي، أردنا هذا أم لم نرد، وهناك فلسفات روحية وأخرى علمية، فلسفات وجودية وأخرى نفعية، تفريعات لا حد لهـا علـى هـذه الفلسفات، وهناك أزياء علمية لفلسفات أبعد ما تكون عن العلم كالوضعية المنطقية، والبراغماتية، وفلسفات تنزيـا بأزياء الحـريـة وهـي لا تصلح سلاحاً بشرياً للكفـاح مـن أجـل الحريـة، بـل لـعـلـهـا فلسفة تفتـت الكفـاح وتشتته كالوجودية.

نحن في حاجة كذلك إلى مراجعة هذا التراث الفلسفي الحديث في ضمائرنا وجامعاتنا ومسلكنا اليومي، وأن نقف منـه مـوقـف التمحيص والنقد، وأن نقيم لأنفسنا وجهـة نظـر شاملة متجانسة موضوعية عن الحياة والإنسان والعالم، حتى لا نقع في التخبط والتلقائية، كي لا نتورط في نظرات جزئية قاصرة، وتخنقنا فلسفات مريضة زائفة، من حيث ندري ولا ندري.

ما أحوجنا إلى أن نعمم الفلسفة في جوانب حياتنا المختلفة وإلى التأصيل والتعمق وإعمـال الفكر وسيادة روح الانتقاد في الاقتصاد والأدب والعلم والفن والفلسفة ذاتها، وما أحوجنا إلى الفلسفة لا إلى كراهيتها، بل لإشاعتها وتعميمها.

----

الكتاب: معارك فكرية

الكاتب: محمود أمين العالم

الناشر: اتحاد الكتاب العرب، دمشق