في رصيدها ما يقرب من خمسة عشر كتاباً في الرواية والقصة، تُرجم ثلثها إلى العربية، وهي: أرز لبنان وقصص من سردينيا، الهروب إلى مصر، الأمّ، أقصاب في مهب الريح، وأهواء حديثة. هي الأديبة غراتسيا ديليدّا 1871 - 1936، ثاني أديبة في العالم تنال جائزة نوبل 1926، وأول من نالها في إيطاليا. روائية وشاعرة، وكاتبة مسرحية.

في روايتها "أهواء حديثة وكولومبا"، والتي هي غاية هذه القراءة، فإنَّ ثمة كتابة قد تبدو مختلفة عن المعتاد في السرديّات الروائية، وذلك لأكثر من مستوى. فمن ناحية السرد، كثيراً ما سادت مناخات الحوار، بدل حضور الرواي العالم بكل مصائر الشخصيّات، والتي كثيراً ما كان يوصلها إلى مآلاتها الأخيرة، الرواي - السارد الذي غالباً أيضاً ما يُجسّد هو بدوره إحدى شخصيّات الرواية. هنا كثيراً ما تدع غراتسيا ديليدا، السرد لشخصياتها كي تتحاور فيما بينها، ويبدو طغيان الحوار في الرواية من مرجعية الكاتبة في شغلها في النصوص المسرحية، حيث يغلب الحوار على ما عداه من تقنيّات فنية وبلاغية.

ولأنَّ ثمة علواً للحوار في الرواية، فقد اقتصرت الشخصيّات إلى أقل ما يُمكن، وقد حصرتها الكاتبة برجل وامرأتين، يتشظى طول الوقت بينهما، حتى يكاد يتلاشى. ولأنّ الأمر كذلك، كثيراً أيضاً ما تذهب الرواية، أو السرد الروائي لجوانيات الشخصيّات، ولتصوير الحالات النفسية على خلفيةٍ من مشهدية بصرية للمكان، وهو الأمر الذي أنقذ الرواية – وهي وجهة نظر بالتأكيد - من أن تذهب بعيداً في الحالة البحثية لاسيما فيما يتعلق بالكثير من الثنائيات المتناقضة ووقعها على نفسيّات الشخصيات، وتحديد مصائرها، الأمر الذي أنقذها – كما ذكرنا - من الحالة البحثية الصرفة، ومن بقائها في الحالة الأدبية، وتحديداً هنا الرواية.

الروايةُ التي تصبُّ جام غايتها لتصوير الانقسام داخل شخصية أنتونيو الريفي الأصل، والمغرم برعي الأغنام والعزلة، ومن ثم المثقف الذي يعيش في المدينة الصاخبة والمزدحمة. أنتونيو، الذي لم تهبه الطبيعة الوسامة التي تليق بعاشق، ولكنها عوضت عن ذلك النقص المريع في الجمال بالثقافة والذكاء. وهناك ماريّا ابنة المدينة الأرستقراطية المشتتة بين ذكاء رجلها، أو بمن هو بمثابته، وعدم الوسامة، الذي هو هنا خطيبها أنتونيو، كما بقيت طول الوقت حائرة بين فقره الشديد، وثقافته العالية. وأما ثالث هذه الشخصيّات فهي كولومبا، وتعني في الإيطالية "حمامة"، الراعية الحسناء من قريته، والتي يُغرم بها أنتونيو، غير أن "أميتها" تبقى عائقاً في إتمام هذا الحب، تماماً كما بقي الفقر وعدم الوسامة في إتمام الحب المُشتهى مع ماريّا، وعدم وصول العلاقتين الغراميتين إلى خواتيمهما الجميلة. وفيما حضر بعد ذلك من شخصيّات في الرواية، لكنها كلها جاءت لغاية إكمال الصورة بكلّ أبعادها وأطرها لمشهدية التراجيديا التي يعيشها أنتونيو بكلِّ هذا التشظي النفسي والروحي والمجتمعي.

وفي سردها لهذه الحوارية، اعتمدت غراتسيا ديليدّا، أسلوب القصة القصيرة، حتى إن الرواية بمجملها لا تتجاوز المئة صفحة، وهي تقوم على قصتين تأخذان عنوان الرواية نفسها "أجواء حديثة"، التي تبدأ بها الكاتبة من خلال تصوير علاقة أنتونيو بخطيبته ماريّا في المدينة، واستحالة إتمام هذه العلاقة معها وهي المغناج المدعية الثقافة العالية، لكنها تعيش محنة فقر خطيبها وعدم وسامته، بمعنى الحيرة والانقسام الذي ينتاب أنتونيو ليس من نصيبه وحده، وإنما يجتاح المرأتين الحبيتين أيضاً. تقول ماريّا في نجواها: "إني أحبّه، لكن شخصه يُخيفني، كما أنّ روحي تُخيفه. ثمّ تابعت غناءها". ثم تتبعها بقصة كولومبا وذلك عندما يعود أنتونيو من المدينة خائباً ومُحبطاً إلى الريف، ليتفاجأ بسحر وجمال كولومبا المفعمة أنوثة، غير أن أميتها كما ذكرنا، تحول دون إتمام هذه العلاقة أيضاً وتقبل بزواجها من راعٍ آخر في القرية رغم تعلقها الشديد بأنتونيو، أي إنها هي الأخرى مفعمة بالتشظي والحيرة والانقسام.

من هنا لا تبدو غاية غراتسيا ديليدّا، تصوير علاقات الحب غير المكتملة بين أنتونيو وماريّا وكولومبا وحسب، وإنما كانت تسعى لتصوير الفروقات في المجتمع خلال بداية القرن العشرين في إيطاليا، تلك الفروقات التي تجعلُ كلَّ تلك الجماليّات في الحياة ناقصة، وعاجزة عن أن تصل إلى نهاياتها المأمولة.

تبدو الشخصيّات في كلِّ ما كتبته غراتسيا ديليدّا، تُعاني القلق، لا سيما في عدم القدرة على التكيّف بما حولها، وبمن حولها، وتحاول أن تدمج في سردها بين عدّة مستويات: المستوى الواقعي، لا سيما في تأكيدها على "زمكانية" أحداث الرواية، فقد أفاضت بالوصف الشاعري في الكثير من مطارح الرواية، وهناك المستوى النفسي الذي يُغرق في تصوير الصراعات الداخلية التي تعتمل في جوانيّات الشخصيّات، وثمة مستويان أخران يكادان لا ينفصلان عن بعضهما، وهما: الروحي – الديني، والفلسفي، وقراءة هذه المستويات بهذا التفصيل، هي قراءة للتحليل فقط، ذلك أنها كثيراً ما تتماهى معاً في توصيف حال الشخصية لتبرير أفعالها، وردود أفعالها، ومن ثم لتُعطي تفسيراً لكل ما يجري. فعلى سبيل المثال لا الحصر، فإنّ حالة التشظي التي يعيشها أنتونيو، من الإنقسام والحيرة، لن يبقى موزعاً بين امرأتين من بيئتين مختلفتين في كلِّ شيءٍ رغم حالة الأنوثة الطاغية المشتركة بينهما؛ بل ستتوسّع دائرة الإنقسام من حوله إلى دوائر متعددة، ليس أولها الانقسام بين المدينة والريف، بل تتعدد إلى الفقر والغنى، والثقافة والأميّة، والجمال وعدم الوسامة، وبين الامتثال للعادات والتقاليد والتمرد عليها، أو بين السعادة والحزن، وغير ذلك.

وهنا لا بأس من نقرأ معاً بعض من هذا الحوار الذي دار بين أنتونيو وماريّا حول مفهوم كلّ منهما للسعادة: "أنتَ ترى بطريقةٍ برجوازيةٍ ضرورة امتلاك بيت في الريف، فيه الورود والأطفال، وزوجةٍ جميلة وطيبة وولود، وترى هذا كله من أسباب السعادة... أين هي السعادة إذاً؟! هل هي في المدن، بين زيف البشر والأشياء؟... أعلمُ أن السعادة حلم من أحلام عالمنا الباطني، ورؤية من رؤى قلوبنا..."، هذه الحيرة التي كثيراً ما كانت تتوشى بالخوف حتى من كلمة أو نظرة، وهو الأمر الذي يزيد في هشاشة الكائن: "لكنه شعرَ بنوعٍ من الخوف، فسكتَ مُتجمداً. لم تكن هذه المرّة الأولى التي كانت ماريّا تثيرُ الخوف في نفسه، عندما تفتحُ عليه بكلماتها المُحزنة بابَ عالمٍ فارغ مظلم وبارد مثل الليل".

----

الكتاب: أهواء حديثة وكولومبا – رواية

الكاتب: غراتسيا ديليدّا

ترجمة: نبيل رضا المهايني

الناشر: الهيئة العامّة السّوريّة للكتاب