دخلت "الرؤيا" مجال الأدب العربي مع ظهور الصوفية، تلك الظاهرة التي كانت الرؤيا ركناً مهماً من أركانها. وقد فرّق الصوفيون بين الرؤية والرؤيا، فعند الصوفي محي الدين بن عربي، الرؤية هي المشاهدة بالبصر لا بالبصيرة، فيما الرؤيا عنده أيضاً ليست سوى استمرار للقدرة الإلهية. الرؤيا في التجربة الصوفية، هي أحدى الوسائل، أو اللغات التي تتبطنها اللغة من أجل الكشف للإنسان والوجود، أعمق وأغنى وأشمل.

من هذا المدخل يُحاول الباحث راجي شاهين الولوج إلى نص الأديب السوري الراحل محمد الماغوط، وذلك في كتابه (الرؤيا في شعر محمد الماغوط) الصادر عن الهيئة العامة للكتاب – وزارة الثقافة، وهي دراسة يبغي من خلالها الباحث إيضاح تجربة الماغوط من خلال تتبعها الرؤيوي في أعماله الشعرية. هذه الدراسة وحسب الباحث نبعت من إحساس الشاعر بالأشياء، وخاصة عندما يقوم الماغوط بتقطيع الأحاسيس، وإعادة دمجها لتشكّل صورة للذات الفاقدة لملامحها الأساسية.

ومن هذا الولوج، يبيّن شاهين مكونات الرؤيا في نص الماغوط، فقد اقترن مصطلح "الرؤيا" في بحث شاهين بالشعر دون غيره من الأجناس الأدبية، ولما كان يسعى لتحديد مكونات الرؤيا في شعر الماغوط. من هنا كان بحثه على مكونات شعره، تلك الرؤى التي انبلجت من شعره، والذي أنتج تلك المحددات، ومن ثم وجدها في ثلاثة مكونات هي: المكوّن النفسي، بما يعني ذلك من روح متمردة، السوداوية، الرعب، والفوضى؛ والمكوّن الاجتماعي، بما يعني ذلك: التشرد، الغربة، والجوع؛ والمكوّن الثقافي، الذي هو هنا قصيدة النثر، والسوريالية، وبعد ذلك يشرح تقنيات هذه الرؤيا الذي تمّ بالتصوير، والترميز.

هذا ما أسقطه الباحث على نص الماغوط ليكشف عن رؤيا الماغوط الكامنة في ذلك النص؛ حيث تتجلى لقارئ شعر الماغوط سمات نفسية عدة، منها ما حضر عابراً، ولم يصل إلى مرحلة الظاهرة النفسية، وبعضها الآخر حضر بقوة كالتمرد، السوداوية، الفوضى، والخوف، يقول الماغوط:

لقد كرهتُ العالمَ دفعةً واحدة

هذا النسيج الحشري الفتاك.

ويقول أيضاً: أنا لا أنام

حياتي سواد وعبودية وانتظار

وهناك عشرات الشواهد التي يتناولها شاهين لتأكيد مكونات الرؤيا في نص الماغوط، والتي وجدها في الملامح الأربعة التي ذكرناها سابقاً. وهنا فإن المتتبع كذلك للنص الماغوطي، لا بد سيجده يحفل بالتمرد والسوداوية على وجه التحديد، وهذا أمر لا يختلف عليه ناقدان، وحتى متابعان للتجربة الماغوطية، ومن ثم لا بد سيجد ذلك المتابع إن ثمة تناقض في الجمع بين التمرد والخوف أو الرعب، فالمتمرد لا يخاف، وهو ما يشير إليه الباحث نفسه، غير أنه يعود ويؤكده كمكوّن أساس لحالات الرؤيا عند الماغوط. ومن وجهة نظري، ثمة الكثير من التمرد والسوداوية في نص الماغوط، وهذا لا يختلف عليه اثنان يتابعان نص الماغوط كما ذكرت، وربما هو صادق في هذين الملمحين، وأقصد هنا الصدق الفني بكلِّ تأكيد، غير أن ثمة التباساً يصل حد الزيف في مسألة الخوف والرعب، وهو ملمح ليس حقيقياً، فلا شيء داهم كان يُخيف الماغوط ذي الطابع السوداوي والفوضوي الذي يصل حدّ الجلافة في أكثر حالاته الشعرية والشخصية، وما توسله لمسألة الخوف والرعب، إلا نوعاً من إضفاء الكوميديا على نصه السوداوي الذي غالباً ما يأتي بذلك "التركيب" المدهش. وحقيقة، إذا كان الشاعر نزار قباني، شاعر لغة بالدرجة الأولى، فإن الماغوط شاعر تراكيب من نوع مختلف، تماماً، كما أدونيس شاعر أفكار من نوعٍ مختلف هو الآخر. ومن ثم كان على جميع الشعراء ممن عاصروا هؤلاء الثلاثة أن يتوزعوا بينهم بطريقة لا تخلو من دراماتيكية.

يقول الماغوط:

أعرف أن هذا التصرف مخجل ومعيب ومشين

لكن العار أجمل من الخوف

وبالعودة إلى كتاب الباحث راجي شاهين، فقد وجد في المكوّن الاجتماعي في ملامح علاقة الماغوط بمجتمعه، وذلك في إطار نواحٍ ثلاث هي: التشرد، الغربة، والجوع. وبحسب الباحث، فقد امتلك الماغوط استعداداً نفسياً لخوض تجربة التشرد، ووفر المجتمع الضغط اللازم حتى تستثمره تلك النفس، وتتحول إلى نفسٍ فاقدة لمعنى الثبات والديمومة، متخلخلة الجوانب من وجهة الاستقرار، ولأن التشرد هو "الطريق، والرصيف، والحافلة، والأماكن المتعددة"، وهذا ما يزدحم به النص الماغوطي.

مخذولٌ أنا لا أهل ولا حبيبة

أتسكع كالضباب المتلاشي

كمدينة تحترق في الليل.

وفي كلِّ الأحوال من الصعب الفصل بين التشرد والغربة اللذين حتماً يؤديان إلى الجوع، فالماغوط كان في صدامٍ مع وجوده، على مستواه الفردي، والمجتمعي، والإنساني، لذا كانت الغربة مآلاً حتمياً له، ومن كان سعيه في البحث عن امتلاء، وعن إشباع لنفسه التي لا تشبع، - وهذا تعبير الباحث بالتأكيد – و لعل هذا النمط من الجوع، هو الذي كان أشدّ إيلاماً من الموت.

أيها الرجل المجهول

أقذف قبعتي في الوحل

أضرب حبيبتي بالسياط

ولكن دعني آكل.

في المكوّن الثقافي، يبحث المؤلف عن مرجعيات الماغوط الثقافية، التي أنتجت نصه الشعري، وهي في قصيدة النثر، وفي السوريالية، فقد اتصل الراحل الماغوط بقصيدة النثر اتصالاً جعله من روادها. وحسب النقاد، فقد كان الماغوط هو المرجعية الأساس لقصيدة النثر العربية الحديثة، وذلك لتبنيه المدهش الشعري بتقنياته المختلفة، الأمر الذي جعل التجربة الماغوطية منذ نشأتها تحديثية فارقة. وهذا يعود إلى تمرده الإنساني، والذي لا بد سيجد منعكسه في النص الذي يكتبه، فمن غير المعقول أن يقدم الماغوط وهو صاحب النفس المتمردة والفوضوية نصوصاً على إيقاعات فقدت مغزاها لكثرة ما قيلت في قوالبها التي استنفذت كلَّ الجماليات.

ومن ثمّ، فإن تراكيب الماغوط التي اختارت قصيدة النثر لبوساً لها، تلك التراكيب المدهشة، التي يقدمها الماغوط فالتة من عقلانيتها، لا أظن يُناسبها سوى السوريالية للجمع بينها – التراكيب- لتنتج سوريالية ماغوطية، خاصة بمحمد الماغوط وحده، وإن كانت منطلقة من جذور السوريالية القديمة.

خمسون عاماً وأنا أترنح

ولم أسقط حتى الآن

ولم يهزمني القدر

إلا بالنقاط وبالضربات الترجيحية.

يستنتج شاهين في خواتيم بحثه: لقد تخلى الماغوط في شعره عن القافية، وتحرر من الوزن نهائياً معوّلاً على الموسيقا الداخلية، وما استند إلى قواعد في كتابته، أي أنه جسّد فكرة الحرية في الفن. ونجد في كتابات الماغوط الحضور الطاغي للطبيعة بكلِّ مكوناتها، كما تطالعنا آلية تبادل معطيات الحس – تراسل الحواس- وهذه هي محددات أساسية في الاتجاه الرومانسي. كلُّ ذلك قدمه بتقنيات الرؤيا التي وجدها بالتصوير والترميز.

وكلُّ ذلك أدى لتلمس أكثر من رؤيا في النص الشعري لدى الماغوط: الرؤيا الفردية والتطلع الفئوي، وتضم رؤيا الواقع: التي كانت تستشعر ضجيجه بكلِّ ما فيه، ولم تقف رؤيا الماغوط عند توصيف المشهد العام للواقع، بل تفحصته، كما اعتنت بنثراته لتصبح الرؤيا أكثر تفصيلاً وعمقاً. وهناك رؤيا الوطن، فالماغوط مشغول بالوطن من أضيق مستوى، وهو الذات مع أحلامها وتصوراتها، حتى أوسع مفهوم للوطن.

يفصّل الباحث شاهين بالكثير من الرؤى الأخرى في شعر الماغوط منها الرؤيا الاجتماعية والتطلع المرحلي، والتي تتضمن: رؤيا الثورة، ورؤيا الموت، وهناك الرؤيا الشاملة والتطلع الإنساني، منها ما يخص وعي أزمة الوجود، ورؤيا الانهيار الإنساني. فقد وجد الباحث أن الرؤيا كانت أحد عناصر الشعرية في نص الماغوط، وهي الحالة الفنية التي خرجت بأدبه من البنى السطحية والتعبير المباشر لتمنحه دلالات عميقة، ومعاني جديدة أكثر شمولاً واتساعاً.

كل هذه الخيانة والخراب الذي يعمُّ العالم

بسبب موت الضمير أو سباته

وفي رفرفة بسيطة من جفنيه

يعمُّ السلام.

----

الكتاب: الرؤيا في شعر محمد الماغوط

الكاتب: راجي شاهين

الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب