تتحدد المعرفة في أنها متضمنة من خلال إنجاز العلوم، لذلك لا يمكن أن يكون للسؤال الترنسندنتالي حول شروط المعرفة أي معنى، ولا يمكن أن يطرح في صيغة سؤال منهجي عن قواعد بناء واختبار النظريات العلمية.

من المعروف أن كانط كان قد سمح بقبول مفهوم معياري عن العلم من خلال الفيزياء المعاصرة، لكن بصرف النظر عن أن هذا الربط يناقض نقد معرفة غير متحفظ، فقد أخذ كانت شكل العلم الحديث كنقطة انطلاق لتكوين موضوعات ممكنة لمعرفة تحليلية سببية، وهذا البعد يغيب عن الوضعية، لأنه بالنسبة إليها أن حقيقة العلم الحديث لم يتخلّ عن السؤال عن معنى المعرفة إجمالاً، إنما أصدرت حكمها مسبقاً.

والوضعية تشير إلى نهاية نظرية المعرفة، وبدلاً منها تظهر نظرية العلم، ويتجلى هذا الاستبدال في أن الذات العارفة لم تعد تمثل نسق المرجعية، فمن كانط حتى ماركس تم إدراك ذات المعرفة كوعي وكأنا وكروح وكنوع، غير أن نظرية العلم تتنازل عن السؤال عن الذات العارفة وتتجه مباشرة إلى العلوم التي تكون معطاة كمنظومات من القضايا وأشكال الطرق وكمركب من القواعد التي تُبنى النظريات وتُختبر طبقاً لها.

وتشترط نظرية العلم مسبقاً كمنهجية بحث صدقية المنطق الصوري والرياضيات، وهي كعلوم أولية مقطوعة من أحد أبعادها الذي يمكن أن يصنع فيها تكوين عملياتها الأساسية ليصبح موضوعاً ما.

ولم يكن بإمكان نظرية العلم أن تحقق ذاتها إجمالاً إلا على ظهر فلسفة تاريخ علموية، لأنه لم يكن بالإمكان تدمير علاقة الاشتقاق الخاصة بنظرية المعرفة دون تعويض مفهوم المعرفة الفلسفي كمفهوم منتقص ميتافيزيقياً من خلال شرح مغزى العلم. وتعطي المواجهة بين ما هو فعلي وبين ما هو مجرد متخيل المعيار من أجل فصل صارم بين العلم والميتافيزيقيا. وعقلنا يجب أن يتوجه نحو موضوعات البحث القابلة للتناول فعلياً، مع إقصاء الألغاز القابلة للتعليل.

ولا يحاول كانط أن يميز بصورة مباشرة بين الحقائق والتخيلات من خلال تحديد أنطولوجي لما هو حقيقي، يصبح كحقيقة كل شيء يمكن أن يصير إلى موضوع علم صارم. ولهذا السبب يعود تحديد مجال موضوع العلم إلى السؤال عن كيفية تحديد العلم ذاته، علماً بأنه لا يمكن تحديد العلم على المستوى الذي تقبل به الوضعية وحده إلا من خلال القواعد المنهجية التي يسير طبقاً لها.

بيرس ودلتاي

لقد تم اعتراض اختزال نظرية المعرفة إلى نظرية علم أطلقته تحديداً الوضعية القديمة من خلال حركة معاكسة عبر عنها بشكل أنموذجي كل من بيرس ودلتاي، والتأمل الذاتي للعلوم الطبيعية وعلوم الروح لم يستطع إيقاف انتصار الوضعية وإن كان قد اعترض مساره.

ولقد دفع بيرس بالتأمل الذاتي للعلوم الطبيعية إلى الأمام، وقام دلتاي بالشيء ذاته بالنسبة إلى علوم الروح، وذلك إلى مستوى أصبحت فيه المصالح التي توجه المعرفة قابلة للإدراك، كما طور كل من بيرس ودلتاي منهجية علوم الطبيعة وعلوم الروح كمنطق للبحث، وهما يدركان سيرورة البحث في كل مرة انطلقا من علاقة حياة موضوعية سواء أكانت علاقة تقنية أم علاقة براكسيس الحياة، أما منطق العلم فيعود ويكتسب من خلال ذلك بعد نظرية المعرفة المتروك من قبل نظرية العلم الوضعية، وكما كان الأمر بالنسبة إلى المنطق الترنسندنتالي، فإن منطق العلم يبحث عن جواب السؤال عن الشروط القبلية للمعرفة الممكنة، وهذه الشروط لم تعد بطبيعة الحال قبلية في ذاتها، إنما فقط من أجل سيرورة البحث.

ولقد اصطدم كل من بيرس ودلتاي بقاعدة مصلحة المعرفة العلمية، ولم يكوّنا مفهوم المصلحة التي توجه المعرفة، كما أنهما لم يدركا ما يقصده هذا المفهوم تماماً، ولقد قاما فعلياً بتحليل تأسيس منطق البحث في علاقات الحياة، لكن كمصلحة توجه المعرفة لم يكن بإمكانهما مطابقة التوجهات الأساس للعلوم التحليلية التجريبية والهرمنوطيقية إلا في إطار بقي غريباً عنهما ضمن تصور تاريخ نوع مدرك على أنه سيرورة تكوّن. ولأنهما لم يدركا منهجيتهما بوصفها التأملي الذاتي للعلم، فقد ضيّعا نقطة الوحدة بين المعرفة والمصلحة.

مفهوم المصلحة

ظهر مفهوم المصلحة في فلسفة كانط الترنسندنتالية، غير أن فشته استطاع أن يطلق المفهوم بمعنى مصلحة محررة مدركة للعقل الفاعل ذاته، بعد أن يتبع العقل النظري للعقل العلمي.

والمصلحة هي الرضا الذي يربطنا مع تصور وجود موضوع ما أو وجود فعل ما. وهي تهدف إلى الكينونة لأنها تعبر عن علاقة الموضوع المعني بمقدرتنا على التمني، كما أن المصلحة إما أنها تشترط مسبقاً احتياجاً ما، أو تُنتج احتياجاً ما. وهذا يماثل التمييز بين المصلحة التجريبية والمصلحة المحضة، فالأولى تعني المصلحة العملية بالفعل، في حين تعني الثانية المصلحة المرضية بموضوع الفعل، والأولى تشير إلى تعلق الإرادة بمبادئ العقل في ذاته، أما الثانية تشير إلا تعلقها بالمبادئ ذاتها وصولاً إلى الميل، وفي الحالة الأولى يشد الفعل الاهتمام، أما في الحالة الثانية فالاهتمام يكون بموضوع الفعل.

ولقد كان لموضوع المصلحة المحضة أهمية استثنائية ضمن النسق الكانطي، فهو يعين حقيقة يرتكز عليها يقيننا عن واقعية العقل العملي المحض، غير أن هذه الحقيقة ليست معطاة في التجربة العادية، بل تؤكد من خلال الشعور الأخلاقي الذي يجب أن يتطلب دور التجربة الترنسندنتالية.

وبالنسبة إلى كانط فإن المرء لا يرى بشكل صحيح ماذا أضيف إلى العقل النظري من خلال مصلحة عقل تأملية، فمصلحة العقل التأملية يفترض أن تسوغ كمصلحة فقط من خلال أن العقل العملي يجب أن يكون في خدمة العقل النظري، دون أن يغترب لهذا السبب عن قصد معرفة للمعرفة ذاتها، ومن أجل مصلحة المعرفة ليست هناك حاجة إلى دعم الاستخدام التأملي للعقل، إنما الربط ما بين العقل التأملي المحض وبين العقل العملي المحض، ذلك تحت إشراف العقل العملي، ولقد اعترف كانط في النهاية أنه لا يمكن الحديث بالمعنى الصارم عن مصلحة عقل تأملية، إلا عندما يتحد العقل النظري مع العقل العملي وصولاً إلى واحد هو المعرفة.

----

الكتاب: المعرفة والمصلحة

الكاتب: يورغن هابرماس

ترجمة: حسن صقر

الناشر: منشورات الجمل