يُعد الواقدي من أقدم المؤرخين في الإسلام، وأحد أبرز أعلام الرواية التاريخية، حيث أظهر منذ صغره ميولاً كبيراً نحو العلم والتعلم، وكان ذلك بالتشجيع من قِبل والدته، وكان من أهم مميزاته دقة ملاحظته الشديدة، وقدرته على ضبط الأحداث بالرغم من صغر سنه، كما كان شديد العناية والاهتمام بجمع الأخبار والروايات وخاصة تلك المتعلقة بالمغازي.

هو أبو عبد الله محمد بن عمر بن واقد الأسلمي المدني البغدادي القاضي، والمعروف بلقب "الواقدي". ولد في المدينة سنة 130هـ - 747م، وأخذ العلم عن شيوخ عصره، فاتصل بمالك بن أنس، وأخذ عنه الحديث، وتتلمذ على يد سفيان الثوري وابن جريج ومعمر بن راشد وغيرهم، كما أخذ المغازي والسير عن أبي معشر السندي، وظل عاكفاً على طلب العلم حتى نال شهرة واسعة في عصره، وعد بعد ابن إسحاق في اتساع العلم بالتاريخ، بل فاقه في دقة المادة العلمية، والعناية بتحقيق الأحداث وتوضيح الإطار الجغرافي الذي يتصل بموقع الأحداث.

وعندما زار الخليفة هارون الرشيد المدينة في حجه سنة (170هـ - 786م) دلّوه على الواقدي ليرشده إلى الأماكن المقدسة في المدينة، ويحتفظ ابن سعد بخبر واف عن هذه الحادثة سجلها على لسان الواقدي في كتابه "الطبقات الكبرى".

أصبح يُعرف بسعة علمه واطلاعه، مما أكسبه شهرة واسعة ومكانة عظيمة بين علماء عصره، كما اتصف الواقدي بالإيثار والحياء والكرم الشديد والذي تسبب له بالعديد من الضوائق المادية التي ظل يعاني منها طوال حياته. وعلى الرغم من تباين آراء العلماء حوله، ما بين تضعيفه والثناء عليه، إلا أنّه لا يمكن إنكار دوره الكبير في حفظ وكتابة التاريخ الإسلامي والتراث الذي خلّفه من كتب ومصنفات ذات القيمة العالية، وخير دليل على ذلك هو آراء بعض العلماء الذين عرفوا فضله، وأقرّوا بسعة علمه، أمثال إبراهيم الحربي، وأبي عبيد القاسم بن سلاّم.

وكان الواقدي شغوفاً بجمع المعارف المنتشرة في عصره؛ فنسخ ما أمكن نسخه من الكتب التي أمكنه الحصول عليها، ويروى أنه ترك بعد وفاته أعداداً هائلة من الكتب من نسخ غلامين مملوكين له كانا يكتبان له بالليل والنهار، وكانت هذه الكتب هي أساس نشاطه الأدبي الخاص الذي شمل ميادين عديدة.

كان الواقدي يحرص كلما سمع عن غزوة، أن يذهب إلى موضعها لمعاينته، وقد كان لنباهته الشديدة هذه دورٌ كبير في توطيد علاقته مع الوزير يحيى بن خالد البرمكي، وخير دليل على ذلك ما ذُكر عن أنّ هارون الرشيد ويحيى البرمكي عند وصولهما إلى المدينة المنورة لأداء فريضة الحج، طلبا من يدلّهما على قبور الشهداء والمشاهد فيها، فأشار لهما الناس على الواقدي، والذي قام باصطحابهما لزيارة جميع المواضع والمشاهد.

كما تولى الواقدي العديد من المناصب الهامة في عهد الخلافة العباسية، فقد تولى القضاء في غربيّ بغداد، ثم ولاه المأمون قضاء عسكر المهدي في الجانب الشرقي من بغداد مدة أربع سنوات وحتى وفاته، وعلى الرغم من علم المأمون عن علاقة الواقدي الوطيدة مع يحيى البرمكي، إلا أنه أكرمه وولاه القضاء حتى بعد وقوع نكبة البرامكة.

وكان لديه العديد من المؤلفات في الفقه والقرآن والحديث والتاريخ، وقد أوردها ابن النديم في كتابه "الفهرست" مثل: كتاب "غلط الحديث"، كتاب السنة والجماعة وذم الهوى، كتاب الترغيب في علم القرآن.

وتشمل كتبه في التاريخ أكثر من ثمانية وعشرين كتاباً يتركز معظمها حول العهد الإسلامي، ومعظم كتبه فقدت منها كتاب (أخبار مكة، يوم الجمل، صفين، مقتل الحسين، سيرة أبي بكر ووفاته، أمر الحبشة والفيل).

ومن أهم كتبه: كتاب "التاريخ الكبير" ويتناول فيه أحداث التاريخ الإسلامي الهامة حسب تاريخ وقوعها.

كتاب "الطبقات"، ويضم تاريخ طبقات المحدثين في الكوفة والبصرة، وتظهر أهميته بما يكشف عن علاقة الحديث بالتاريخ منذ وقت مبكر.

كتاب "المغازي" تناول الواقدي في كتابه المغازي جميع المرويات التاريخية المتعقلة بغزوات الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد توخى عند جمعه لها الدقة الشديدة والشمولية، فجاءت هذه الأخبار شاملة لكل ما قد يحتاجه القارئ من تفاصيل دقيقة، ومعلومات لطيفة عنها.

توفي الواقدي في بغداد في عام 207 هجري عن عمرٍ يناهز 78 عاماً، وعلى الرغم من المناصب التي تولاها والعطايا التي نالها من الخليفة، إلا أنه توفي وهو لا يملك شيئاً من المال، وقد أوصى بأن يقوم المأمون بسداد ديونه، فقبل المأمون وصيته، وقضى دينه عنه.

----

المراجع:

-سير أعلام النبلاء، شمس الدين الذهبي، دار الفكر، بيروت.

-الطبقات الكبير، محمد بن سعد بن منيع البصري الزهري ، مكتبة الخانكي، القاهرة، 2002.