لقد كان نظام حكم الأيوبيين في دمشق مستمداً من نظام حكمهم في مصر، والذي كان في الوقت نفسه امتداداً لنظام حكم الزنكيين، ومن قبلهم السلاجقة في بلاد الشام، مع إدخال بعض التعديلات حسبما تقتضيه مصلحة دولتهم.

وفي العصر الأيوبي كانت علاقة السلطان بالملوك والولاة في الأقاليم علاقة إقطاعية، وهي على نوعين، الأول: إقطاع إداري، والثاني: إقطاع حربي (عسكري)، وقد طبق الإقطاع العسكري على نطاق واسع في ذلك العصر، وشكل الإطار الرئيس الذي تطورت داخله الصورة الحقيقية لنظم الحكم والإدارة عندئذٍ.

وكان من أهم المناصب الإدارية في زمن الأيوبيين (السلطان) الذي جاء على رأس جهاز الحكم، ومن وظائفه تجنيد الجنود، وإقامة فرض الجهاد وإعلاء كلمة الله، والنظر في الإقطاعات، والمحافظة على بيت مال المسلمين، والنظر في الدين والصلوات.

أيضاً (نائب السلطان) وهي وظيفة كان صلاح الدين أول من استحدثها لأنه كان كثير التغيب عن دمشق لانشغاله بأمر الجهاد، وظلت الوظيفة قائمة طوال عصر الأيوبيين والمماليك. ومن المناصب الإدارية أيضاً (الملك) حيث كان من تقاليد البيت الأيوبي أن يحوز لقب ملك كل من خرج منه ولد وتوفي قبل أن يتولى شيئاً من الإمارات، وقد خرج من هذا البيت بعض الشعراء والفقهاء والمحدثين الذين لم يتولوا شيئاً من شؤون الدولة فحملوا لقب ملك.

أما الوزارة في عصر الأيوبيين لم تكن سوى وزارة تنفيذ، حيث كان الوزير يلي نائب السلطان. ومن وظائف الدولة الأيوبية أيضاً الداودار والأستاذ دار وناظر الخاص والمهمندار وأمير السلاح والشرابدار والشحنة وكاتب السر وقاضي العساكر، أما الوظائف الإدارية فكان منها الوالي ووالي القلعة والمحتسب وقاضي القضاة والدواوين.

ولقد شهدت دمشق في عهد الأيوبيين مجداً وعزاً، حيث يعد عصر نهضة حقيقية في جميع مرافق الحياة، وقد أصبحت دمشق مركزاً ومقراً للأيوبيين بعد قدوم صلاح الدين إليها واستقراره بشكل دائم، لكنها سرعان ما تعرضت للخراب والدمار نتيجة الحروب بين أبناء صلاح الدين، وعلى الرغم من ذلك كانت دمشق تلملم جراحها وتنهض إلى مجدها وعزتها، فازدحمت بالأمراء والقواد والجنود، وكانت لهم موارد مالية كثيرة مما عاد بالرفاهية والرخاء على الشعب الدمشقي.

وفي ذلك العصر أيضاً أصبحت حاصلات دمشق الزراعية تتنقل إلى بلاد الغرب مع منسوجاتها، وكذلك السكر والزجاج، وقد وصفها الرحالة ابن جبير فقال إن دمشق جنة المشرق ومطلع حسنه المؤنق. وكان لدمشق أيضاً نصيب وافر من اهتمام الغربيين، ومن عوامل ازدهار حياتها الاقتصادية مجاورتها للإمارات الصليبية، ومركزها الاقتصادي في الشرق، ووقوعها على طريق القوافل الآتية من الهند والعراق.

ومن الناحية الصناعية عرفت دمشق صناعة النسيج منذ القدم، وتفنن الصناع في عملهم، كذلك الصباغة والصناعات المعدنية، في مقدمتها صناعة الأسلحة وأدوات القتال، أيضاً عرفت الصناعات النحاسية والأدوات الطبية وصناعة الورق والزجاج، كما نشطت حركة الاختراعات والابتكارات، وصناعة الخزف والفخار والقاشاني، إلى جانب الصناعات الخشبية حيث اتصف النجار الدمشقي بإلمامه بالهندسة والمساحات والحسابات والمقاييس، كما اشتهرت دمشق الأيوبية بصناعة الصناديق من خشب الجوز ذات النقوش المحفورة عليها، وصناعة الرماح والصناعات الجلدية والدباغة وصناعة الصابون والعطور، وصناعة الأدوية والعقاقير الطبية، ومختلف الصناعات الغذائية.

أما التجارة فقد لعبت دوراً هاماً كمصدر من مصادر الاقتصاد لدى الشعوب، حيث كانت الوسيلة الوحيدة لتصريف الإنتاج الزراعي والصناعي، وقد أولى صلاح الدين اهتماماً خاصاً وعناية فائقة من ناحية تشجيع التجارتين الداخلية والخارجية البرية والبحرية، وتعاونت دمشق الأيوبية مع مصر في تبادل المحاصيل الاقتصادية وتمويل الجيوش، حتى غدت الإمارات الأيوبية في بلاد الشام محطات تجارية هامة، وقد ساهم في ازدهار التجارة في دمشق الأيوبية انتشار الأمن وسهولة الانتقال إلى أي مكان دون عوائق، وتأمين الحماية للتجار وأموالهم، وتوافر الأسواق والصناعات المتقدمة، كذلك لأن دمشق كانت مركز السلطة في بلاد الشام.

وإلى جانب ذلك اهتمت الدولة الأيوبية بالعلم والعلماء، وعملت على تنشيط العلم وتعزيز مكانته في البلاد، فشيدت المدارس والمعاهد، وترجع الروح العلمية ونشاطها وسيادتها في الدولة الأيوبية إلى الأيوبيين أنفسهم حيث كانوا علماء، والكثير منهم لهم مؤلفات متنوعة في العلوم والفنون، وقلّ من الأيوبيين من لم يكن شاعراً أو لم يقل الشعر.

----

الكتاب: دمشق في العصر الأيوبي

الكاتب: د. أحمد الأوتاني

الناشر: دار التكوين، دمشق