كثيراً ما عُرفت مدن وقرى، واشتهرت بمبدعين نشأوا فيها، وكانت قبلُ مغمورة في زوايا النسيان، غير أنّ ثمة أماكن قد تنجدلُ مع حياة مبدع ولد فيها، حتى إنها تُكنى به حيناً، وطوراً تصيرُ نسبةً إليه. ولعلّ أبرز مثال على هذه الحالة هي مدينة حمص السورية، وشاعرها المُثير للجدل ديك الجن، فهي – حمص- مدينة ديك الجن، وهو ديك الجن الحمصي.

رغم مرور مئات السنين على وفاته، لايزال هذا الشاعر يُشغلُ الناس، وذلك من خلال الإثارة التي كانت سمة لحياته التي مايز من خلالها معاصريه من الشعراء، فهو الشاعر العبثي الذي كانت الطبيعة مجال تجواله، وهو الشاعر الذي عاش الملذات طولاً وعرضاً وارتفاعاً، والعاشق الذي يقتل حبيبته غيرةً، وهو أيضاً الشاعر الذي لم يُفارق حمص إلى مكانٍ آخر، وهو الشاعر الذي لم يمدح خليفةً أو أميراً أو يتوسلّ منصباً وغير ذلك الكثير. وهذا كان دافعاً للباحث خالد حلبوني لأن يُعيد البحث في سيرته من جديد، وذلك في الكتاب (ديك الجن – الذاتية والإبداع).

على مدى ثلاثة أبواب، والكثير من الفصول، يُفتش الدكتور حلبوني في زوايا التاريخ المخفية للكشف وإضاءة ما جرى وضعه في العتمة على مدى قرونٍ طويلة معللاً - ما استطاع إلى ذلك- صمت المصادر التاريخية حول هذه الشخصية المثيرة للجدل، إلى درجة وضعه في زاوية الغموض والحيرة، حيث لولا بضع صفحاتٍ في كتاب الأغاني لأبي فرج الأصبهاني لربما لم تعرف الأجيال اللاحقة شيئاً عن أستاذه أبي تمام وأبو نواس أول الثائرين على المقدمات الطللية التي ألزمت القصيدة العربية بما لا لزوم له، وكان الرائد في المدرسة الشامية الشعرية، ديك الجن الذي عاصر كل خلفاء بني العباس، ولم يتقرب من أحدهم.

وفي نسب ديك الجن الحمصي تختلف الروايات أيضاً، فمنهم من جعله ينتمي إلى أسرة كانت تقطن منطقة "مؤتة" جنوب سورية، والبعض الآخر وجد له مولى لطيئ، غير أن المؤكد في سيرة هذا الشاعر، إنّ أسرته اتخذت من منطقة "سَلمْيَة" مستقراً لها، ثم ما لبثت أن نزحت إلى حمص، وهنا كانت ولادة ديك الجن، ومن هذه الأسرة عُرف ابن عمه أبو الطيب الذي كان له التأثير الكبير في حياته، وفي مأساته أيضاً. وكانت أولى إبداعاته الشعرية في رثاء ولده وقد دفنه صغيراً، وكان على اسم أبيه رغبان.

وهنا يتساءل الكثيرون، هل يبست شجرة ديك الجن بعد ذلك ويبست الحياة فيها؟ وبرأي الباحث حلبوني: فإنّ ديك الجن ظُلم ظلماً فادحاً، فحياته اللاهية، واغترابه النفسي، وسوء حظه، كل ذلك من جملة الأسباب التي تضافرت فيما بينها لتُثقل الوطأة عليه، وقد ظلمه القدامى حين لم يهتموا به اهتماماهم بمعاصريه كالبحتري وغيره، كما ظُلم من قبل المُحدثين أيضاً بعدم البحث عن كنوزه، وهو الشاعر الذي عاش لنفسه، ولم يُغادر حمص بلده الأثير على قلبه.

وديك الجن الحمصي، واسمه: عبد السلام بن رغبان بن عبد السلام بن حبيب بن عبد الله بن رغبان بن يزيد بن تميم، وزاد النويري جداً آخر بعد تميم فذكر بن مجد. ولُقب بديك الجن، حتى اشتهر اللقب شهرةً واسعة غلبت على الاسم الحقيقي، وقد كثرة معاني "ديك الجن"، فيحكى أنه سُميّ كذلك بسبب عادته المتواصلة في الخروج إلى بساتين الميماس في أطراف حمص، كما ربط المؤرخون بين الشاعر وبين دُويبة تُسمى ديك الجن كانت توجد في تلك البساتين. ورأى خليل مردم، إنه لُقب بديك الجن لكثرة خروجه إلى البساتين ومعاقرته الخمرة. ومن المؤرخين من ربط بين الاسم وظاهرة تتعلق باللون كما ذكر ابن عساكر، فقد شابت لحية الرجل وحاجباه وشعر يديه، وكانت عيناه خضراوين. وأما أطرف التفسيرات، كان من مديحه ديكاً لأبي عمر بن جعفر حسب ما يذكر أبو العباس التيفاشي، أو بسبب أطواره الغريبة، أو أنه استوحي من ملاحقته الغواني، وهو الذي كان يُصرح إنه على استعداد للتخلي عن كل شيء كرمى امرأة. وقد عاش حياته لا يرتوي من امرأة واحدة، ويجري لاهثاً خلف اللذة.

ويتساءلُ الباحث: هل كان انغماس ديك الجن في إعلان مجونه، إنما أراد التعبير عن الاغتراب النفسي الذي كان يحياه؟!

أيُّها السائلُ عني

لست بي أخبر منّي

أنا إنسانٌ براني

الله في صورة جني

كما عُرف بسلاطة اللسان وحدة الطبع، لكنه كان رقيق الغزل، يفتخر بخوضه الليل المدلهم التي تهاب الجن ركوب متنه، كما لم يكن يتحرج من نسبته للجن، وتصوير سحنته بصورة الجن.

وخوضُ ليلٍ تهابُ الجنُّ لُجته

وينطوي جيشها عن جيشه اللجبِ

وهو الشاعر الذي تميزت حياته بمعاقرة الخمر، واحتساء كوؤسها، والعبث والتغزل والتشبيب، لا سيما في مرحلة شبابه.

لأغادينَّ الراح وهي زلالُ

ولأطرقنَّ البيت فيه غزالُ

ولأتركنَّ حليلها وبلقبه

خرقٌ وحشوُ فؤاده بلبالُ

وليشفينّ حُبّي فمٌ وجنى يدٍ

وكلاهما لي باردٌ سلسالُ

غير أنّ من جعل تلك الحياة العبثية، تنقلب مأساة حتى نهاية حياته، فكانت من تدبير ابن عمه أبي الطيب الذي كان يضمر له الحسد والحقد، بأن جعله يُشكك في سلوك حبيبته "ورد"، إلى أن قتلها، ثم ليعيش بقية أيام حياته ندماً على فعلته وتسرعه.

----

الكتاب: ديك الجن، الذاتية والإبداع

الكاتب: خالد الحلبوني

الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب