يرى ريموند ويليامز أن الثقافة هي واحدة من الكلمتين أو الثلاث الأكثر تعقيداً في اللغة الإنكليزية، ولقد اقترح لها ثلاث تعريفات عامة، حيث يمكن استخدام الثقافة للإشارة إلى مسيرة من التطور الفكري والروحي والجمالي، أو قد تُستخدم كلمة ثقافة للإشارة إلى أسلوب حياة معين سواء لشعب أو عهد أو جماعة، وأخيراً يرى أنه يمكن استخدام الثقافة للإشارة إلى الأعمال والممارسات الفكرية وخاصة الأنشطة الفنية.

عادةً ما يعني الحديث عن الثقافة الشعبية جمع المعنيين الثاني والثالث لكلمة ثقافة، فقد يُتيح المعنى الثاني الثقافة كأسلوب حياة معين، ويتيح المعنى الثالث الثقافة كممارسات دالة.

ويبدو واضحاً أن أي تعريف للثقافة الشعبية سوف يجمع مزيجاً معقداً من المعاني المختلفة لمصطلح ثقافة مع المعاني المختلفة لمصطلح شعبي، لذلك فإن تاريخ ارتباط النظرية الثقافية بالنظرية الشعبية هو تاريخ للطرائق المختلفة التي ارتبط بها المصطلحان بوساطة عمل نظري في سياقات تاريخية واجتماعية معينة. لكن توجد نقطة بداية واضحة في أي محاولة لتعريف الثقافة الشعبية، ألا وهي القول إنها مجرد ثقافة مفضلة على نطاق واسع، أو يحبها كثير من الناس، ومما لا شك فيه أن هذا المؤشر الكمي سيحظى بموافقة الكثير من الناس.

وينشأ حقل الثقافة الشعبية من المحاولات التي تقوم بها الطبقة المسيطرة من أجل الهيمنة، ومن أنماط المعارضة لهذا المسعى، وعلى هذا النحو فهو لا يتكون من مجرد ثقافة جماهيرية مفروضة تتوافق مع الأيديولوجيا المسيطرة، ولا من مجرد ثقافة معارضة عفوية، بل هو في الواقع مساحة للتفاوض بين الاثنتين، حيث يجري فيها – في أنواع معينة من الثقافة الشعبية – مزج العناصر والقيم الأيديولوجية والثقافة المسيطرة الخاضعة والمعارضة في ترتيبات تبادلية مختلفة.

ويلخص ويليامز الفئات العامة الثلاث في تعريف الثقافة، فأولاً توجد الثقافة المثالية وتكون فيها الثقافة بمثابة حالة أو عملية من الكمال الإنساني من حيث بعض القيم المطلقة أو العامة، وثانياً هناك السجل الوثائقي أي النصوص والممارسات الباقية من الثقافة، وهنا تمثل الثقافة مجموعة من الأعمال الفكرية والتخيلية التي يجري فيها بطريقة مفصلة تسجيل الفكر والتجربة البشرية بأوجهها المختلفة، وثالثاً هناك التعريف الاجتماعي للثقافة وتكون فيه الثقافة وصفاً لأسلوب حياة معين، فالتعريف الاجتماعي للثقافة أمر هام لتأسيس الثقافوية.

وبالنسبة إلى ويليامز فإنه لا بد من التمييز بين ثلاثة مستويات من الثقافة حتى في تعريفها الأكثر عمومية، إذ توجد الثقافة الحية لزمان ومكان معينين، وتوجد الثقافة المسجلة من كل نوع ابتداءً من الفن وصولاً إلى معظم الوقائع اليومية، وهذه تسمى ثقافة الفترة، وتوجد أيضاً ثقافة التقاليد الانتقائية كعامل رابط بين الثقافة المعاشة وثقافة الفترة.

الطبقة والثقافة

في الآونة الأخيرة نشأت الطبقة كمفهوم لا غنى عنه عند محاولة التفكير النقدي في الثقافة، في حين ما بعد الحداثة جعلت الطبقة تبدو كمفهوم قديم الطراز، وغياب عملية التصنيع جعلها أقل وضوحاً، والأيديولوجيا النيوليبرالية جعلتها أقل قدرة على الوجود كهوية إيجابية، لكن الانهيار المالي عام 2008 وسياسة التقشف التي تلته غيرا كل هذا جاعلين الطبقة شديدة الوضوح كهوية حية، معطين المفهوم قوة تفسيرية جديدة.

لقد كانت الطبقة أساسية في تأسيس الدراسات الثقافية، كما أن اهتمام الدراسات بالثقافات الفرعية للشباب والمقاومة والهيمنة والثقافة الشعبية مستمدة كلها من الاهتمام بالطبقة، كذلك الأعمال المبكرة لثلاثة من مؤسسيها ريتشارد هوغارت وإي بي طومسون وريموند ويليامز، لا يمكن التفكير فيها من دون مفهوم الطبقة. ويشير ويليامز إلى أنه في مسيرة الثورة الصناعية دخل عدد من الكلمات المهمة في الاستخدام الشائع، وكانت الطبقة إحدى هذه الكلمات، ويبيّن أن تطور الطبقة بمعناها الحديث بأسماء ثابتة نسبياً لطبقات معينة (الدنيا والوسطى والعليا والعاملة..إلخ) يعود إلى الحقبة 1770 – 1840 التي هي حقبة الثورة الصناعية وإعادة تنظيمها الحاسم للمجتمع. وتاريخ الطبقة يتعلق بالوعي المتزايد بأن الموقع الاجتماعي يُصنع بدلاً من كونه يورّث فقط.

إذاً كان ظهور مصطلح الطبقة هو أيضاً ظهور لفكرة أن التقسيم الاجتماعي صنعه البشر، ويرتبط بكيفية تنظيم المجتمع، وقد كان كارل ماركس هو الشخص الأكثر ارتباطاً بهذه الفكرة.

المادية والإنشاء الثقافي

يُزعم في بعض الأحيان أن الدراسات الثقافية تختزل الأشياء المادية إلى أمر بسيط المعاني، لكن في الواقع العكس هو الصحيح، لا يُختزل الشيء المادي بل يُوسع ليشمل ما يعنيه في الثقافة البشرية، ولطالما كانت الدراسات الثقافية مهتمة باستخدام الأشياء، وقد اقتضى هذا الاهتمام دائماً مراعاة ماديتها.

والأشياء المادية يجب أن تُدرك بأنها ذات معنى من خلال الممارسة الاجتماعية، هذه العملية (أي الأفعال البشرية لجعل الأشياء ذات معنى) هي التي تحولها إلى أشياء ثقافية.

والإنشاء الثقافي لا يعني جلب شيء مادي إلى الوجود، بل يشير إلى كيفية جعل الأشياء المادية ذات معنى، وفهمها على أنها ذات معنى في أنظمة معينة من الدلالات المدركة التي ندعوها ثقافة.

وعندما نقول إن شيئاً ما هو إنشاء ثقافي، فإننا لا نعني أن الثقافة هي التي جلبته إلى الوجود، بل نعني أنه لا يوجد شيء طبيعي حول ما يعنيه وكيف يُفهم على أنه ذو معنى، فهذا دائماً ما يكون نتيجة عمل ثقافة معينة ودلالة مُدركة. ومع ذلك فإن الواقع المادي ليس أثراً من آثار الدلالة، ويمكن أن يكون موجوداً على نحو تام من دون أن يجري جعله يعني ويفهم بأنه ذو معنى. وهذا التشابك بين الدلالة والمادية تمكنه من ممارسة اجتماعية تدعوها الدراسات الثقافية بـ "الثقافة".

----

الكتاب: النظرية الثقافية والثقافة الشعبية

الكاتب: جون ستوري

ترجمة: عمران أحمد

الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب