يُعد التناص من أكثر المصطلحات المستخدمة في المفردات النقدية المعاصرة رغم إساءة استخدامه في بعض الأحيان. والتناص بوصفه فكرة من الأفكار الأساسية في النظرية الأدبية المعاصرة ليس مصطلحاً شفافاً. ورغم استخدامه الدال على الثقة من قِبل العديد من المنظرين والنقاد، إلا أنه لا يمكن ذكره بطريقة تخلو من التعقيد، فمثل هذا المصطلح معرّض لخطر ألا يعني شيئاً أكثر مما يريده أي ناقد.

ويمكن القول إن للتناص مثل نظرية الأدب الحديثة والنظرية الثقافية نفسها جذور في لسانيات القرن العشرين، لا سيما في العمل المبدع الذي قام به اللغوي السويسري فردينان دي سوسيور، كذلك تركيزه على خصائص اللغة التصنيفية الذي حدد الطبيعة العلائقية للمعنى ومن ثم للنصوص.

لكن التناص ينبثق أيضاً من النظريات المهتمة أكثر من سوسيور بوجود اللغة ضمن مواقف اجتماعية محددة. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أعمال المنظر الأدبي الروسي ميخائيل باختين المؤثرة في الأدب واللغة التي تخبرنا عن نظريات التناص المختلفة، أيضاً محاولة جوليا كريستيفا الجمع بين نظريات اللغة والأدب السوسيورية والباختينية، حيث أنتجت أول صياغة لنظرية التناص في أواخر الستينيات من القرن العشرين.

ولقد دخل مصطلح التناص في اللغة الفرنسية لأول مرة في بداية عمل كريستيفا في منتصف ستينيات القرن العشرين وأواخرها. وفي مقالات مثل "النص المحدود" و"الكلمة والحوار والرواية" قدمت كريستيفا عمل المنظر الأدبي الروسي باختين للعالم الناطق بالفرنسية، حيث يعد عمله اليوم مؤثراً للغاية في مجالات النظرية الأدبية والنقد واللسانيات والنظرية السياسية والاجتماعية والفلسفة والكثير من فروع المعرفة الأخرى.

وكريستيفا لم تبتكر مصطلح التناص فحسب، لكنها عندما قامت بذلك قدمت شخصاً يُعد من أهم المنظرين الأدبيين في القرن العشرين، بمعنى أننا لا يمكننا فصل التناص عن أعمال باختين، وعند فهم التناص فإننا سنفهم بالتأكيد شيئاً عن باختين.

وثمة نصان مترجمان إلى اللغة الإنكليزية لعمل كريستيفا المبكر "الرغبة في اللغة" يكملان بعضهما في إظهار تأثير باختين على كريستيفا، والطريقة التي تحول وتنقح وتعيد بها توجيه عملها. ففي "النص المقيد" تهتم بتأسيس الطريقة التي يتم بها بناء النص من الخطاب الموجود مسبقاً، فالكتّاب لا يخلقون نصوصهم من عقولهم المبدعة، لكنهم يقومون بتجميعها من نصوص موجودة مسبقاً، حيث يكون النص عبارة عن تعديل للنصوص الأخرى، أي تناص في فضاء نص معين، تتقاطع فيه الأقوال المتعددة المأخوذة من نصوص أخرى وتحول دون تأثير بعضها على بعض.

والنصوص مصنوعة مما يسمى أحياناً بالنص الثقافي أو الاجتماعي، وهو كل الخطابات المختلفة وطرق التحدث والقول والبنى والأنظمة الموافق عليها مؤسساتياً، التي تشكل ما نسميه الثقافة. وحسب هذا المعنى فإن النص ليس كياناً معزولاً ومنفصلاً، لكنه تجميع لنصوص ثقافية. وهنا تعيد كريستيفا صياغة المفهوم الباختيني للحوار من خلال انتباهها السيميائي للنص والنصية وعلاقتهما بالبنى الأيديولوجية.

ووفقاً لكريستيفا فإن الأبعاد التناصية لنص ما، لا يمكن أن تدرس كمجرد مصادر أو تأثيرات تنبع مما يسمى تقليداً "خلفية أو سياق"، كذلك يتعلق التناص بالنسبة إليها بالرغبة والدوافع النفسية للمتكلم المنقسم دائماً بين الوعي واللاوعي والمنطق والرغبة والعقلانية واللاعقلانية والاجتماعي واللااجتماعي وما هو غير قابل للإبلاغ.

ومنذ ظهوره في العمل ما بعد البنيوي أواخر الستينيات، تم اعتماد التناص واستكشافه من منظرين لهم تركيبة عقلية بنيوية. فمن الخطأ الحديث عن وجود مفترق طرق هام في النهر الذي ينبع من التزام كريستيفا المبدئي بباختين، وأن هذا المفترق قد أنتج تفسيرات بنيوية وما بعد بنيوية واضحة لهذا المصطلح، لكن لا يزال ممكناً أن نحدد ما يمكن تسميته تفسيراً بنيوياً للتناص عند عدد من المنظرين الذين عملوا أواخر الستينيات فصاعداً.

والتناص كمصطلح لم يقتصر على مناقشة الفنون الأدبية، فكان موجوداً أيضاً في المناقشات التي تدور حول السينما والرسم والموسيقا والعمارة والتصوير وكل الإنتاجات الثقافية والفنية تقريباً. وعلى الرغم من أن ثمة شعوراً شائعاً يجمع بين الأدب وكلمة نص، إلا أننا بحاجة إلى أن نتذكر العلاقة بين التعبيرات الأولى لنظرية التناص وتطور مفاهيم سوسيور المتعلقة بالسيمولوجيا لفهم استخدام التناص في دراسة أشكال الفن غير الأدبية. ففي كتابه "محاضرات في اللسانيات العامة" كان سوسيور متشوقاً لعلم جديد وهو السيميائية التي ستدرس حياة العلاقات داخل المجتمع، حيث من الممكن أن نتكلم عن لغات السينما أو الرسم أو الهندسة المعمارية، وهي لغات تستلزم إنتاج أنماط معقدة من الترميز وإعادة الترميز والصدى ونقل الأنظمة والرموز السابقة، فالأفلام والسيمفونيات والمباني ولوحات الرسم هي تماماً مثل النصوص الأدبية تتحدث دائماً بعضها مع بعض كذلك مع الفنون الأخرى. وقد رحب الكثير من النقاد بتوفر التناص كمصطلح، وناقشوا بأن له ميزة إيجابية على مصطلحات أكثر رسوخاً في مجالاتها.

كما أن التناص في كثير من الأحيان يمكن أن يتحدى بشكل جوهري التفسيرات السائدة لأشكال الفن غير الأدبية. فمثلاً تشير ويندي شتاينر إلى الحقيقة القائلة إنه كما للرسم بداهة غير متوفرة في أشكال الفن الأخرى ومعتمدة بشكل كبير على كشف ذاتها مع مرور الوقت، فإن لازمنية هذا الشكل من أشكال الفن قد أسهمت في الرؤية الساذجة بأنه مرآة للطبيعة، وهي معادل مثالي للمجال المرئي والرؤية الكاملة لما هو جميل. وهذه الأفكار المقبولة يمكن أن تؤدي إلى افتراضات بأن الرسم يقف وراء السيمولوجيا، وأنه لا يمكنه أن يعني أكثر من مظهره المباشر والخاص. وفي حين أن الفنون الزمانية قادرة على نفي أو نقد الأفكار السابقة أو اقتراح الجديد منها، فيمكن للرسم أن يُقدم شكلاً خالصاً من أشكال التصوير ما وراء المعنى الافتراضي أو النقدي.

وتظهر شتاينر بأن الملامح التناصية للرسم يمكن أن تأخذنا من الطريقة التي يتم فيها إكمال بعض اللوحات من قبل لوحات أخرى، إلى اقتباس الرسامين لأساليب معروفة ثقافياً لمدارس سابقة أو بعض الفنانين.

من ناحية أخرى يمكن لفكرة التناص أن تعيد إنتاجاً مماثلاً للتصوير الفوتوغرافي الذي يرى غالباً بأنه تصوير محض للواقع. وقد ناقش فنانون ونقاد فوتوغرافيون أن معنى الصورة الفوتوغرافية يعتمد على نشرها واعتراف مشاهديها بالرموز والتقاليد الثابتة. كما أن التناص مفهوم يفتح الآفاق في قراءة سلسلة من الصور الفوتوغرافية، لأن العمل يستخدم عدداً من الرموز والتقاليد الثقافية الهامة، ويشير أيضاً كنص إلى البيئة التي يتم عرضه فيها.

----

الكتاب: نظرية التناص

الكاتب: جراهام آلان

ترجمة: د. باسل المسالمة

الناشر: دار التكوين، دمشق