مكانياً تنطلقُ أحداثُ رواية "وفي الأرض المسرة " للكاتب آرام كرابيت من منطقة تبدو للوهلة الأولى فقيرة. تبدأ من حدثٍ غامض، هو جرحٌ ملتبس لراعٍ من البادية السورية، عدّتُه في الحياة ناي وربابة وكلب، وبشخصيةٍ وحيدة، هي الشخصية الساردة للأحداث. وستبقى كذلك وحيدة إلا من جرحٍ يأبى على الالتئام.

على إثر مطرٍ ربيعي في صحراءٍ مُلتبسة، تبدأُ الحكايةُ من جرحٍ قديمٍ ينكأ ذاكرة هذا الراعي. جرحٌ غائرٌ يبقى يحثُّ ذاكرة سليلة لأنين الوجع لعبد الله، ليبدأ الزمنُ بالاتساع، وكذلك المكان الذي سيتمددُ وسعَ الذاكرة الجريحة. الذاكرةُ التي يستحثُها الجرحُ الغائرُ في الفخذ. جرحٌ قديم له معادله الأشد إيلاماً في الروح. ومن هنا يأبى أنْ يندملَ طالما ثمة ذاكرة تعيش "حياةً دائرية، حرباً وسلاماً، موتاً وحياةً، في محاكاةٍ للزمن والذات والآخر"، ذاكرةٌ هي محطة شُيدت فوق قمامة، وفوق أكوام من الأسئلة.

هذا الجرحُ الذي ينكأ الذاكرة عند كلِّ هشاشة كان اكتواه الراوي عبد الله ذات حربٍ من الحروب الخاسرة التي خاضتها السلطنة العثمانية في البلقان من جملة حروبها الكثيرة الخاسرة، سلطنةٌ بقيت تعيشُ طول عمرِها تجمعُ لهذه الحروب الرجالَ من كلِّ أنحاء احتلالالتها الكثيرة في الغرب والشرق، حيث يخوضُ هؤلاء حروباً لا ناقة لهم فيها ولا جمل سوى أطماع سلاطين مصابين بالانفصام، وقادة جندٍ مهووسين بالقتل وجمع الأتاوات.

ولأنَّ "الذاكرة، جبالٌ عالية، وديان سحيقة، وانحدراتٌ قاسية. قوةٌ وضعف.. إنها بيتُ المرء، شقوقٌ متجذرة في أعماقه تشدّهُ نحو الأسفل، أو ترفعه نحو الأعلى، هي موجٌ، رياحٌ وبرد نحتت في جوف جمجمته لتكون مرجعاً للشيطان، في ملتقى أو افتراق". المهم، شيء ما يُعيد السارد دائماً إلى مربعٍ غريب قائمٌ على شفيرِ منحدرٍ عميق يصلُ من جبل عبد العزيز في الجزيرة السورية إلى بلوفديف في بلغاريا. ولن تنتهي الأمكنة في الجبل الأسود، أو القرم، أو البوسنة والهرسك، مروراً باستانبول عاصمة السلطنة العثمانية، والتي كلُّ شيءٍ فيها بالمقلوب. "تضحكُ في غير أوانها، ترقصُ، تُضاء وتغني في مواسمَ ليستْ مواسمها، هكذا ولدت وعاشت". ومن هنا ستتعددُ الشخصيات بتعدد الأمكنة التي تتناسلها حكايات لذاكرةٍ جريحة، وللشخصية ذات الجرح الغائر في الفخذ.

ولأنَّ الذاكرة مثخنةٌ بالجراح، فهي تقدّمُ أحداثَها مشاهدَ بصرية، ولعلَّ هنا كانت لعبة الكاتب الروائية، في هذا السعي الحثيث لنقل المشاهدَ البصرية، فهو منذ البداية يُشرّعُ كاميرا، وليس قلماً، أو هو قلمٌ بعين كاميرا، يبدأ بوصفٍ مشهدي شفاف على تخوم الشعر، رغم كلِّ الحالةِ السردية، غير أنها جاءتْ مفعمةً بالحالة الشعرية الحزينة – ذلك أن الرواية على ما يرى كثيرون بناءٌ لغوي بالدرجة الأولى - وهذا ما اشتغلَ عليه آرام كرابيت في هذه الرواية ضمن متاهة من التشابه والتكرار في الزمن، وفي الأمكنة أيضاً. متاهةٌ يوحي من خلالها الكاتبُ بمحو العلامات الفارقة للتمييز بين مختلف الأشياء للتخلص من حالة ضياعٍ طويلة امتدّت في زمن الرواية لأكثر من ثلاثين سنة.

يقوم عبد اله" إذاً بالروي – هكذا يسميه ليعطي الاسم صفة الإطلاق والشمولية – على طريقة التداعي التي لا تلتزمُ سردَ الأحداث حسب وقوعها التاريخي تراتبياً بالضرورة، وإنما روايةُ الأحداث حسب وجعها، وحميميتها، تنطلقُ من عودة عبد الله بعد تيهٍ دامَ ثلاثين سنة لقريته "أم مدفع" بالقرب من "الشدادي" إحدى مناطق الحسكة، التي تحتمي بجبل عبد العزيز، ليصدم بفاجعة الفواجع، وهذه المرة أرمينية الجرح، عندما ارتكب الجنود الأتراك أحدى أكبر غوائل التاريخ، وهي عملية التطهير العرقي التي قامت بها السلطنة العثمانية بداية القرن الماضي، كما جرت حسب عوائدها، وهي ارتكاب مجزرة بحق مكوّن من أحد مكوناتها عندما تُهزم في أحد حروبها، وهي التي اعتادت الهزيمة طول الوقت.

وكان عبد الله قد "اختطفه" الأتراك للمشاركة بأحد حروب السلطنة في البلقان ذات "غلطٍ" في الزمن حملهُ من مكانه، ووضعهُ في مكانٍ آخر، وبشروطٍ أخرى. وهنا في هذه الحرب يُصابُ برصاصةٍ في الفخذ، ويُترك لأقداره التي تسوقه ليلتقي بأمثالٍ كثر غيره ويُشبهونه. مأساتهم أنهم أبناء الحياة، ويعشقونها، ويحاربون الموت بالموسيقا والفرح، في "دولةٍ" قائمةٍ بجهود القاتل. وهذا ما أكدّتْ عليه الرواية طول السرد، حيث يبقى على وجه "الأرض" القتلة وأبناؤهم، من هنا "في الأرض المسرة" وليس عليها، كما يشي عنوان الرواية المقتبس من ترنيمٍ مسيحي "الله في الأعالي، وعلى الأرضِ السلام، وفي الناسِ المسرة". في حين يُدفنُ تحتَ أديمها أبناءُ الحياة، أو "المسرة"، ذلك إنّ "القاتل كائنٌ قلق، في داخله عبوةٌ ناسفة، وعقله مملوءٌ بالتوتر والاضطراب والسوداوية، يساورهُ هوسٌ غريب، ويوقظه من غفوته، يصرخُ، يُزمجر، ويريدُ أنْ يخرجَ من أعماقه، يحثّهُ للذهاب إلى رقبة ضحيته ليجزها". وهذا ما فعلته السلطنة العثمانية، التي في غفلةٍ من الزمن احتلتْ نصفَ العالم على أثرِ فائضِ قوةٍ، ثم بدأت تتقهقر على وقع الدسائس والمؤامرات من داخلها، ومن خارجها تماماً كأي عقليةٍ بدويةٍ يقومُ عسكرُها بتقسيم الرعية إلى نصفين، أحدهما ضحية، والآخرُ جلاد. هنا حيث ولد التركي ليكون في الفيافي المقفرة بعيداً عن الحواضر الذي كان وبالاً عليها، إنه خطأ الأقدار، أو الطبيعة، ثمة خطأ كلف ويكلف غالياً طول الوقت.

يأتي التقطيع السردي الذي طال حياة عبد الله دائرياً، إنه الزمن اللولبي الذي يعيدُ نفسه، ويأتي عادلاً بين الشخصيات، حتى إنه يعيرُ السرد لشخصيات أخرى في الرواية، كنوعٍ من توزيع المأساة بالتساوي، بين أزمنةٍ مختلفة حاضر وماض، تُوزّع أو تتقطع إن صحَّ التعبير ببن كثيرٍ من الأمكنة، بل طال داخل عبد الله نفسه، الذي انقسم بين المؤلف الذي هو صورة من صور الشخصية، وعبد الله ذاته الذي ينطقُ بكثيرٍ من الأماكن بلسان الآخرين. ومن هنا يبلغ أقصاه في المشاهد الأخيرة من الرواية، حينما عرف بالمجزرة الرهيبة التي سبقت ضحاياها – وهم أصدقاؤه الأرمن – إلى الجزيرة السورية بعد رمي جثثهم المقطعة والمغتصبة في مياه الخابور، عبر الماضي وحكاياته بآلامه وأفراحه التي يزدحمُ بها سردُ الرواية؛ حيثُ يكشفُ الكاتبُ تاريخَ السلطنة العثمانية، الذي هو تاريخُ جرائمها بحقِّ من بنوها من رعاياها أولاً، ثم مجازرها بحق جوارها.

فرغم كلِّ الشاعرية التي تُسرد من خلالها الرواية، غير أنها شكلت إدانة لتلك العقلية التركية التي لا تتقن غير الخبث، وهذا هو تاريخها الموغل في الدم، إذ إن "المشكلة أن الأتراك مجرد بدو، لا يتقنون أية رؤية إلا الخبث وتضييع الوقت، وفن الاقتتال العبثي". فلا تترك في خياراتهم غيرَ خيار الحرب، وهي حروب الهزيمة بكلِّ الأحوال.

----

الكتاب: وفي الأرض المسرة

الكاتب: آرام كرابيت

الناشر: دار أرواد، طرطوس