في روايته "هاروكو" التي صدرت سنة 1947، والتي هي أقرب إلى "النوفيلا"– القصة الطويلة بعض الشيء، أو المتوسطة – يُحدثنا يوكيو ميشيما 1925 – 1970 عن الكثير عن الشخصيات التي تسند إليها بعض الأدوار في أحداث الرواية، وهي بكلِّ الأحوال أحداثاً بسيطة.

إن من نشعر بهم، ونحس بوجودهم الحقيقي خلال هذا "السرد" كما يُحب أن يطلق "ميشيما" على نتاجه الإبداعي؛ هم ثلاث شخصيات، أو لنكن على وجه الدقة، شخصية واحدة، هي شخصية الراوي أو السارد "هيروشي"، ومن خلال سرده نتعرّف على شخصيتين نسائيتين أخريين، "ميتشيكو"، و"هاروكو"، والأخيرة تتخذ الرواية من اسمها عنواناً لها، والذين سيؤلفون جميعاً علاقة حب غريبة الأطوار من خلال أطرافها الثلاثة: الرواي هيروشي، وأخت أمه غير الشقيقة هاروكو، و"ميشتكو" شقيقة زوج "هاروكو" المتوفي.

وكل ما يُسرد في هذه الرواية هو من وجهة نظر "هيروشي – الرواي"، والتي تبدأ بالخبر – الفضيحة، هروب الفتاة – هاروكو ابنة أحد الكونتات – النبلاء مع سائقها، والذي لم يمر الوقت الطويل حتى يُقتل على الجبهة، لتعود ثانيةً إلى بيت أبيها النبيل الذي هو جد "هيروشي"، لكن برفقة "ميتشيكو"، أخت زوجها، وبعد ذلك يقوم "هيروشي" في وصف هذه الأفكار المتعرجة باعتباره السارد لهذه العلاقة مع امرأتين شابتين، إحداهما خالته أخت أمه غير الشقيقة والتي تكبره بعشر سنوات.

يقول الروائي الياباني "ياسوشي اينويه" عن "هاروكو" حين صدرت؛ إنها نزلت كالصاعقة على القراء بسبب هذه العلاقة المحرّمة.. فهاروكو، العائدة من لذة الفضيحة "هروب ابنة أحد النبلاء مع سائقها"، بدا اسمها مثل زهرة ساطعة، وقد بد الأمر – كما يصف هيروشي- كما لو أنَّ أي شخص في حضرتها، يشعر بنفسه مجبراً على أن يُحبها، وهي بدورها بدت، وكأنها تؤمن إنه لا يمكن لأي شخص ألا يقع في حبها.

وفي قراءة الرواية، لا بدّ للقارئ أن تُلفته تقنيات بلاغية، كانت عدّة الروائي في السرد، أو قل لعبته الفنية، ولعلّ أبرزها ثلاثة: الوصف، التشبيه، والتراكيب المُدهشة، ورغم صعوبة الفصل بين هذه التقنيات البلاغية إلا للدراسة، ذلك أنها تندغم معاً في تأليف وتركيب المشهد البصري، والذي يُقدّم حالةً جمالية عالية من الشعرية، وهو الأمر الذي يضع الرواية في مناخاتها الأدبية، ويضع المتلقي أيضاً في خضم الحالة الجوانية للشخصية من خلال تأمله لما يُحيط بها من الخارج، كما تُمثّل إطاراً دافئاً للحدث والشخصيات؛ حيث يأتي التشبيه على سبيل المثال كمعادل للحالة النفسية الداخلية لما يعتلج في صدور الشخصيات، والتي لا يُمكن إظهارها إلا من خلال التشبيه، لنقرأ مثل هذا الوصف الباذخ مثلاً: "كان الغسق يتساقط فوق الحديقة". ثمّ لنراه في هذا التشبيه الفاخر والمكتنز كيف يُظهر هيروشي مشاعره الجوانية خلال مواجهته وحيداً مع هاروكو المفعمة بإثارة الفضيحة القديمة: لجأتُ إلى غرفتي، وبعد نصف ساعة من أحلام اليقظة، عدتُ ونزلت إلى الطابق السفلي، كانت هاروكو تُحيك عملها بمللٍ واضح، وهي جالسة على كرسي الخيزران في الشرفة، فكرت في ذريعة صالحة كي أعود لألتقي بها في الطابق الأرضي، غالباً ما يكون الحال على هذه الشاكلة، ولكن غالباً ما يكون المرء فريسةً للصخب، لذا فإنَّ النظر إلى الذات يُمكن أن يكون مصدراً للإرهاب الجسدي مثل التحديق في وجه المرأة، تفترض اللعبة في أن يجد المرء في نفسه صورة الذات وهي تتأمل حتى يتمكن بعد ذلك من القلق بسلام.

ثم تأتي المفردات داخل التركيب، سواء كان وصفاً أو تشبيهاً، أو كليهما معاً، حيث تأتي مثيرة حد الشبق كفريسة السعادة لهذا الكائن الشغف بالنساء، ولكن كمراقبٍ من بعيد حيث يعيش الحب كأحلام يقظة لطيفة. كائنٌ كانت أيامه تصلُ إلى خواتيمها دون أن تعرف النهايات، وعندما يصل اليوم إلى خواتيمه دون أن ينتهي حقاً، فإنه يتركنا في مهبِّ الجوع دائماً.

واستخدام الكاتب لتقنيتي الوصف والتشبيه، وبتراكيب لا تخطر على بال، فهو إضافة إنه يُمثّل المُعادل النفسي – الخارجي لما يجول في داخل الشخص من تأثير ما حوله عليه، يقع على عاتقه أيضاً مهمة أكثر جمالية، وهي مهمة "الإكمال"، أو إتمام السرد الذي يتركه الروائي للمتلقي – القارئ دون أن يقوله، بمعنى كان واضحاً وجلياً بشكلٍ بارع حالات الإضمار والإيحاء والرمز وحتى الحذف، وهو الأمر الذي يمنح طاقة باذخة من البلاغة التي تستدعي إشراك القارى بمتعة السرد والروي والإتمام للوصول إلى خواتيم تناسب كلّ قارئٍ حسب وعيه. "كان صوتها صوت امرأة اجتازت مستنقعاً مهجوراً في منتصف الليل. كان هذا الصوت الناحب صوت خالتي. أنار لي الضوء ما بدا لي أنني لم أتمكن من رؤيته، إنه وجه هاروكو الذي كشف عن مطلب الخطيئة الأساسية للمتعة، هذا السر الذي أعرفه، المنذور للمتعة".

يُلهم الرجل الذي برفقة امرأة جميلة الثقة، بينما الرجل الذي يمشي بين امرأتين فيبدو كمهرّج. ذلك ما أباح هيروشي مرةً لنفسه، غير أن هيروشي لم يكن رجلاً بين امرأتين، بل كان الثلاثة أقرب إلى التماهي العاشق معاً في كائنٍ واحد، في هذا الحنان الذي يسمح به الرجال فقط مع النساء اللواتي سلبوا منهنّ ليلة حب أولى. بعبارة كان حناناً يُمكن أن يكون بمثابة كلّ أنواع العداوات أو الكراهية. راوية هي وصف لحالة عاطفية غريبة مثلثة الأركان، وليست من نوع التثليث المعروف (زوج وزوجة وعشيقة)، علاقة قائمة على بناء خفيف الظل وعلى وقائع حقيقية بسيطة تكاد تكون واهية، يأتي بها المؤلف كنوعٍ من إحضار الزمان الذي هو اليابان في أربعينات القرن الماضي خلال أحداث أو وقائع تبدو أنها حرب دون تبيان ماهية هذه الحرب إن كانت أهلية أم حرب مع عدو خارجي، وضمن إطارٍ اجتماعي طبقي صارم في تقاليده بحيث أنّ أدنى خروج منه يبدو فضيحة مدوية.

كلُّ هذه الزمكانية للرواية تأتي كخلفية للقصة أو الحكاية الأساسية التي يسردها الرواي الذي هو ركن من هذه العلاقة العاطفية الثلاثية الأطراف، وهي علاقة غريبة ومريبة وصادمة بين كلّ الأطراف، الأولى كعلاقة محرمة لجهة القربى، والثانية محرمة كطبقية من جهة نبيل وفتاة من شريحة "أدنى"، وثالثة أوحت بعلاقة "مثلية" بين المرأتين، وبشيءٍ من التفاهم المُبطّن، وبالتراضي بحب امرأتين لرجلٍ واحد، فقد كان يرى في هاروكو ميتشيكو نفسها، ميتشيكو المستحيلة، حيث الصداقة البسيطة تتحول إلى حب، والحب يتحوّل إلى صداقة، حتى إنّ هيروشي كان يطلق عليهما نعت "الأختين"، هنا الثلاثة، كلٌّ منهم كان يعيش عزلته بطريقته الخاصة، وعندما التقوا لم يتخل أحدهم عن عزلته، وإنما كانوا وحيدين معاً إلى درجة التماهي في جسدٍ أثيرٍ من السحر، علاقة ثلاثية سلسة بشكلٍ مُدهش وهائل من الغرابة حيث لا غيرة ولا حسد ولا ضغينة، حتى إنه يُنهي الرواية خلال لقائه مع ميتشيكو بـ:"شعرتُ أنّ شفاهاً أخرى استحوذت على شفتي". بكلِّ هذا الحذف والإضمار تاركاً لنا الحرية الكاملة أن نغلق النهاية المفتوحة بالخاتمة المناسبة، لكن بإيحاءٍ لا يُخفى. ففي غرفة ميتشيكو على سبيل المثال بدت كل الأشياء عندها "ثنائية" من الأطباق والأكواب، والخزن والستائر، فقط سريرٌ واحد! وكأن ميشيما أراد بهذه العلاقة الصادمة من كل أطرافها أن يُطيح بالتقاليد الصارمة بلا هوادة. هي خلطة عاطفية غرائبية قائمة على حواف أحلام اليقظة من خلال الحفر في المُخبأ والمسكوت عنه. وكثيراً ما تأخذ قارئها صوب مناخات راوية "في مديح الخالة" للروائي في الطرف الآخر من العالم المقابل لليابان والذي هو "يوسا" في أمريكا اللاتينية، رغم بعد المسافة الزمانية والمكانية بين الرجلين.

بقي أن نشير إلى أنّ يوكيو ميشيما هو واحدٌ من كبار كتّاب القرن العشرين المتجذر في تقاليده اليابانية والعارف بمناخات الكتابة الحديثة المُطل على عصره وتحولاته، واسمه الحقيقي كيميتاكي هيرواووكي. كان في السادسة من عمره حين كتب قصته الأولى "غابة مُزهرة" سنة 1944، وجاءت روايته "اعترافات قناع" سنة 1949 لتؤكد شهرته بشكلٍ رسمي، ثمّ كانت روايته "صخب الأمواج" المقتبسة من أسطورة "دافني وكلويه" وإسقاطها على الواقع الياباني، وكذلك روايته "الجناح الذهبي" 1956 المستوحاة من أخبار الصحف، و"وطنية" 1951، التي تتحدث عن انقلاب الضباط الشبان العام 1936، وغيرها، ثم كان الانتحار العلني على الطريقة اليابانية بغرز السيف في البطن.

----

الكتاب: هاروكو

الكاتب: يوكيو ميشيما

ترجمة: إسكندر حبش

الناشر: دار دلمون الجديدة، دمشق