يشكل النقد حكم قيمة لنصوص متنوعة أدبياً، وأجناسها، وفي زمن الحداثة يطرح نقد النقد بقصد الغوص في أعماق الدلالات والمعاني والانزياحات، إضافة الى بنية التحليل وفق الأفكار والرؤى النقدية، والتي تشمل العديد من المناهج والمدارس المتبعة.

اعتمدت الدكتورة لطيفة إبراهيم برهم في مقالاتها المجموعة في كتاب "دراسات في نقد النقد" الخطاب النقدي العربي المعاصر متناً لها، لتعالج مجموعـة مـن الـرؤى النقديـة وفـق رؤية نقدية تحليلية، معالجة تنبت هوامش نقدية، لم تلتزم في ترتيبها بالترتيب الزمني لكتابتها، بل حاولت أن تراعي تقدم الرؤية المنهجية. والمتتبع للكتاب يجد هماً ثقافياً خاصاً بالخطاب النقدي العربي المعاصر المتهم دائماً بالترعرع في أحضان النقد الأوروبي المعاصر، مستفيداً مـن أدواتـه النقدية، دون مراعاة للسياقات العربيـة المختلفة عن السياقات الأوروبية التي أنتجت خطابها النقدي المغاير. هـذا الهم دفع بها إلى قراءة أولية في نماذج نقدية عربية معاصرة، كان اختيارها خاضعاً لمناسبات ثقافية، وهـي قـراءة تـنـم علـى أن النقاد تعـاملوا في اشتغالهم النقدي التطبيقي مـع المفاهيم النقدية الأوروبيـة بمرونة، وطوعوها في سياق تطورهم الفكري لرؤاهم النقدية، آخذين بعين الاعتبار خصوصية النص الإبداعي العربي.

وأشارت الناقدة إلى أن لويس عوض في دراساته النقدية التطبيقية وسّع آفاق الرؤية النقدية الاجتماعية بربطها بالحياة الإنسانية، وبحضارة الإنسان متجاوزاً الرؤية الاجتماعية للأدب التي تحيل إلى المجتمع فقط، وعز الدين إسماعيل الذي أغنى مكتبتنا العربية بدراسات نقدية مهمة يمكن تصنيفها تحت عنوان الاتجاه النفسي في النقد العربي المعاصر، تنبه إلى أمرين مهمين مفادهما أن التفسير النفسي للأدب يجب أن ينطلق من الأدب نفسه، وأن الإفادة من علم النفس في تحليل الظاهرة الأدبية هي إفادة جزئية، يمكن أن تنير جانباً من النص الأدبي، متجاوزاً رؤية نقاد الاتجاه النفسي الذين ركزوا في نقدهم على رسم ملامح شخصية المبدع من أدبه.

ونوهت أن الناقد كمال أبو ديب حاول بلورة نظرية بنيوية، بمحورها الأساس اكتناه علاقات التجسيد المتبادلة بين الرؤيا الـتي ينبـع منهـا الـنص الشعري، والبنية اللغوية التي تتجسد عبرهـا هـذه الرؤيا، متجاوزاً رؤية الشكلانية الروسية، التي تبحـث عـن آلـيـة تشكل النص الأدبـي وفقاً للتحليل البنيوي اللغوي لاغية السياقين التاريخي والاجتماعي، لأن انشغالها الأساسي ينصب على الأدب بوصفه نظاماً شاملاً من أنظمة الثقافة التي يموت فيها المؤلف، وما على الباحث إلا اكتشاف القوانين أو العلاقات التي تربط النص مع بعضه بعضاً تمهيداً لاستكناه ما تنطوي عليـه مـن دلالات، ومتجاوزاً أيضاً البنيوية التكوينية، التي لم تعن بآلية التشكل، بل تبحث عن دلالة رابطـة هـذه الدلالة بسياقيها التاريخي والاجتماعي. وبذلك يكـون هـذا الناقـد قـد كـسـر جـدار الانعزال الجمالي، ووسع نشاطه، ليشمل الأعمال الأدبية في مظاهرها الشاملة الكلية. وترتب على ذلك أن أصبح المضمون الأيديولوجي مشروعاً للتحليل النقدي، شرط أن يتم تناوله بوصفه عنصراً في البنية الجمالية. أما اتجاهات التلقي في النقد العربي المعاصر فهي هامش نقدي يخالف الرؤية النقدية السائدة في الخطاب النقدي العربي المعاصر، الرؤية التي تسجل حضور التلقي بدءاً من نظريات التلقي، متجاوزة اتجاهات نقدية كان محورها الأساس في الاشتغال النقدي المبدع في المذهب الرومانسي، والاتجاه النفسي، والعالم الخارجي في الاتجاه الواقعي، والنص في الاتجاه البنيوي اللغوي، الذي يتعامل مع النص بوصفه بنيـة لغوية مغلقة لا تحيل إلى أي سياق خارجي، وفي الاتجاه البنيوي التكويني الذي يتعامل مع النص بوصفه بنية لغوية تحيل إلى السياقين التاريخي والاجتماعي، لتسلط الضوء على التلقـي في هذه الاتجاهات، والاتجاهات التي تلتها، والتي كان المتلقي فيها مركز الثقل النقدي.

لا بد من الإشارة إلى أن المقالتين الخاصتين بـ"البياتي" تتخذان مكانهما في هذا الكتاب، لاشتغال ثانيتهما على رؤية نقدية تشتغل على إبـداع البياتي، ولاشتغال أولاهمـا علـى مـادة نثريـة هـي التجريـة الشعرية للبياتي الذي أعاد كتابتها من جديد، وإعادة الكتابة هـي نص علـى نـص، هـي وعـي جديد بقضايا لم تدرك في وقتها، لتوضع في موضعها من رحلة الذات، ممثلة الرؤية الكلية للمبدع، للوصول إلى بنية الثقافة البياتية.

----

الكتاب: دراسات في نقد النقد

الكاتب: الدكتورة لطيفة إبراهيم برهم

الناشر: دار الينابيع، 2009