لم أعد أذكر الزمن الذي قرأتُ فيه رواية (الناب الأبيض) للروائي الأمريكي جاك لندن (1876 – 1916)؛ غير أنّ ما أذكره جيداً، تلك السردية المُدهشة في "أنسنة" ذلك الذئب، وصراعه بين نداء البراري، وبين الوفاء للتدجين في العلاقة بينه وبين البشر.

هذه الحالة ستكون لافتة في معظم ما كتبه جاك لندن من قصص وروايات أخرى على مدى يُقارب العشرة أعمال من قصصٍ وروايات منها: نداء البراري، أناس القاع، ماتن ايدن، العقب الحديدية. ومنها المجموعة القصصية التي بين أيدينا، والتي هي غاية هذا المقال "شريعة الغاب وقصص أخرى".

فتلك الميزة في السرد، ستصيرُ من ملامح كتابة (لندن)، حيث الشخصيّات التي تقوم بالأحداث موزعة بين البشر والحيوانات. الأخيرة التي ركّز فيها على فصيلتي الكلاب والذئاب على وجه التحديد. وأحياناً ثمة كائنٌ هجين من كليهما. حيث فصيلة الحيوانات كمُعادلٍ موازٍ للبشر، وأحياناً التماهي بينهما في صياغة مُدهشة باتجاهين: "حيونة الإنسان"، و"أنسنة الحيوان"، لا سيما من خلال توصفيه للشخصية من كلا العالمين؛ وصف جوانياتها، وما يعتمل في دواخلها من صراعات، وحتى في توصيفه الخارجي للشخصية، التماهي بين العالمين سواء بإطلاق الكائن الحيواني المخفي داخل الكائن البشري، أو بحالات التدجين التي تمنح الحيوان الكثير من الحالات الإنسانية لا سيما فيما يخص (الوفاء). ولجهة الوعي بالخير والشر، وقوة الغريزة لكلٍّ منهما.

وإذا ما دخلنا في تفاصيل المجموعة القصصية التي بين يدينا لجاك لندن؛ فهي تضمُّ سبعَ قصصٍ تميلُ صوبَ الطول قليلاً، وتأخذُ من مناخات الرواية الكثير، بحيث يُمكن وصفها بسبع رواياتٍ قصيرة، وهي قصص: شريعة الحياة، قوة الأقوياء، باتار، الحرب، إله آبائه، الكلب الشبح، والصمت الأبيض.

قصص ستلفتُ انتباه المتلقي بملمحٍ آخر غير منحى الشخصيات من عالمي البشر والحيوانات، وهو ملمح (الزمكان)، الذي هو الآخر يُشكّلُ غوايةً إبداعية في قصص جاك لندن، فتلك الأمكنة والأزمنة التي يُشكّلها لتكون إطاراً أو قل خشبة مسرحٍ لأحداث حكاياته وسردياته، يعودُ بها إلى بدايات زمن حمى البحث عن الذهب، وزمن حروب الإبادة التي قامت بها الولايات المتحدة الأمريكية بحق الهنود الحمر سكّان أمريكا الأصليين. بل يذهب أحياناً أبعد من ذلك في الزمان والمكان، ويوغل في التاريخ وصولاً للعصور الأولى في وعي البشر لأنفسهم. ودائماً هو "الزمكان" – الغابة التي تفرض قوانينها الخاصة. من هنا يقرأ النقّاد تصوير جاك لندن للكائن البشري في جبروته في مواجهة الظروف الصعبة على اختلاف مصادرها، لا سيما الطبيعة منها، وقسوة البشر على بعضهم حين يفتحون بوابات حظائرهم الداخلية لتخرج منها كلُّ الغرائز البهيمية. قصص تميزت بالقسوة والمرارة التي استقاها من سيرة حياته في الشقاء والتشرد، حيث معظم أبطال قصصه من الذئاب والكلاب والباحثين عن الذهب والنفط والفقراء.

ففي القصة الأولى التي وسمت كامل المجموعة بعنوانها "شريعة الحياة"، يرصد شخصية هندي عجوز، حان رحيل قبيلته مع قدوم الشتاء إلى مكانٍ آخر يقيهم مأسي البرد والجوع، حيث تقول قوانين القبيلة بترك من يعجز عن اللحاق بالركب وقد أمسى كورقة في آخر المواسم لا تزالُ تتعلقُ على الغصن برفقٍ، وتنتظرُ هزةً خفيفة لتسقط. هنا حيث يُترك العجوز الذي هو أقرب إلى الموت من الحياة لمصيره مع كومةٍ من الحطب، ستكون عيدانُها مقياساً لعدد أيامه الباقية أو عدد لحظاته الأخيرة، هنا حيث ذئبٌ مُتربّص ينتظر أن تنتهي تلك الأعواد لتصير رماداً بارداً ويكون العجوز وجبته بداية هذا الشتاء، وحيث الموت يزحفُ إليه من جهاته الست، ويزدادُ اقتراباً مع كل عودٍ يحترق، فهو إن نجا من الموت متجمداً فلن ينجو من انتظار الذئب، وفي النهاية سيزول كما تزول السحب من السماء.

حكاية وجودية لشيخٍ هرم يسمع بعين القلب بعد أن تعطلت كلّ قواه الأخرى. وحيث تبدو له كلُّ خيارت التمسك بالحياة دون جدوى أمام نهايةٍ محتومة، وهي ليست تجمداً كما توقع، حيث لامَ حفيدته ضمناً على أنها لم تكن مُبالية بأن تكون حزمة العيدان أكثر قليلاً. وإنما ستكون الخاتمة تشبه تماماً حيوان (الموظ) العجوز الذي كان شاهداً على عراكه مع الذئاب يوماً ما من أيام صباه البائد، وقد شاهده يلفظ أنفاسه الأخيرة. هنا سيترك نفسه وجبة لذئبٍ طال انتظاره دون التورط في عبث العراك معه أو مقاومته، فكلُّ ما يأتي من أيام جديدة تبدو عليه فائضة ولا ضرورة لها. كلُّ ذلك على وقع سردٍ لحياة حافلة كانت طول الوقت تسير بموازاة حافة الموت.

سرد قصة (شريعة الحياة) سيأخذك بعيداً في عالم الدهشة من وصف الشيخ العجوز الذي ينتظر مصيره المحتوم، إلى وصف كل ما يُحيط به، وهو الأمر الذي سيجد مُعادله من عالم الرموز والإسقاطات. لا سيما في القصة التي تليها قصة (قوة الأقوياء)، قصة سيرمز فيها إلى مسيرة الجشع والطمع والاستبداد في هذا العالم، وذلك منذ أن اقتطع أول كائن أرضاً من هذه الأرض، وقال – دون وجه حق – هذه أرضي، مُتقاطعاً بشكلٍ لافت مع مقولة (برتراند راسل) التي يُشيرُ فيها إلى أنّ أوّل شرٍّ في تاريخ البشرية؛ كان عندما اتخذ أحدهم قطعة من الأرض، وقال هذه ملكي، ومن ثم كان من سذاجة الناس إنهم صدقوه. قصة رمزية لا ينقصها العمق، ولا اللعبة الفنية من لغة ساحرة ووصف يعرف جاك لندن كيف ينقله كمن يكتب بعين الكاميرا. كما لا ينقصها زخم الإسقاطات، لا سيما فيما يتعلق بالهمجية والقتل والسرقات، وانعدام الضمير، واختفاء المبادئ وتلاشي الأخلاق، ولا سيما أيضاً إذا ما تعاضدَ – وهم دائماً متعاضدون – أركانُ الاستبداد: ثلاثة من المحتالين يتبعهم عالمٌ من الحمقى والمغفلين: رجل يزعم أنه صوت الله (رجل الدين)، وحاكم يأمر قوة الجند، ويدعو له رجل الدين بالمزيد من السطوة والطاعة، وكذلك رجل الدعاية أو المُغني الذي يُزيّن كلُّ ما يفعله السابقان، ويُغلفه بالحماسة والتصفيق. ومن ثمّ كان أن اخترعت الحرب لتُلهي الناس في الصراع فيما بينها تتذابح، بينما المحتالون الثلاثة يسمنون.

في قصة (الحرب)، التي ستكون مختلفة عن غيرها لا سيما في اعتمادها على شخصية شاب كُلف بمهمة استطلاعية، قصة تأتي مكثفة ورشيقة الوصف دون استطرادات طويلة، لذلك تبدو أقصر قصص المجموعة، تصوّر مآساة الشاب الذي يغيب عنّا اسمه طول سرد القصة، ليحسد كلّ من يُساق إلى الحرب. شابٌّ يبحث عن مكان وجود العدو، غير أنّ من التقى به، كان آخر ما يُمكن أن يحسبه عدواً، ومن ثمّ لتكون نهايته، وهو الذي كان في المدى المجدي السهل لبندقيته. غير أنها العواطف القاتلة في الحرب، إن لم تقتل عدوك او تحدده جيداً فأنت هالكٌ لا محالة.

أما قصص: باتار، الكلب الشبح، والصمت الأبيض؛ فكانت المكان الذي يُجيد فيه جاك لندن الوصف الذي يُبدع فيه حيث الشخصيّات التي تقوم بالفعل وردة الفعل بشرٌ وكلابٌ وذئاب، والتي يتنوّع الصراع فيما بينها. تعارك بين البشر والحيوان لأجل التفوّق والسيّادة، ولأجل البقاء حيث للبرية صبرٌ عنيد ولحوح متواصل كالحياة ذاتها. وحيث الموت هو توقف الحركة والزوال من عالم الأحياء، الموت الذي يُشبه فراغاً كالجوع، جوعٌ مؤلم ولا يُقدّر أي طعامٍ على ملئه وإسكاته.

----

الكتاب: شريعة الغاب وقصص أخرى

الكاتب: جاك لندن

المترجم: فريد اسمندر

الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب