"ثمة زمان، كانت فيه نبتة شديدة السميّة، متسلقة في المياه الضحلة على أطراف بعض الأخوار، وكان قوم تشوكتاو يمسون تلك النبتة خلال اغتسالهم وسباحتهم، وكان السُم يسري في أجسادهم. ولرقة قلب النبتة إشفاقاً على القوم، أرادت التخلص من سمّها، فدعت الأفاعي، والزنابير، وما شاكلهما من مخلوقات، وأبلغتهم برغبتها بتوزيع سمّها عليهم، شرط ألا يؤذوا به أحداً إلا بعد تنبيهه أو ما لم يتعرضوا لأذى، وهنا قبلت كلُّ تلك المخلوقات تقاسم السّم بذلك الشرط، إلا الأفعى المجلجلة الأرضية، التي أخذت السّم لتقتل به أيّ كائنٍ تلاقيه في طريقها. وهكذا ظلّ دأبها إلى اليوم".

تلك كانت إحدى حكايات سكان أمريكا الأصليين – ما قبل الولايات المتحدة الأمريكية- وهي واحدة من عشرات الحكايات التي يُسجلها كتاب "من الحكايات الشعبية لسكان أمريكا الأصليين –حكايات من الفسيفساء الأمريكي)، من إعداد: تومس أ.غرين، والذي يبدو من الكتاب أنها كانت حكايات من الغنى الهائل، قبل أن يأتي "القوم البيض" وينزعوا "فروة رأس" الساكن الأصلي.

في تلك الحكايات سيتعرف القارئ على أقوام شعوب أمريكا أصحاب الأرض الحقيقيين. فهل لأنهم كذلك كان لهم هذه الذاكرة المفعمة من الميثولوجيا، حيث الإنجدال بينهم وبين كل ما يدب على الأرض الأمريكية، من حيوانات وكائنات أخرى. وحتى مع الأشجار والنباتات والغابات، والبحار، والسواقي، والأنهار، وسفوح الجبال، والمغاور. هنا حيث تمت "أنسنة" كل مكونات الطبيعة: تضاريس وغابات وطيور، ومختلف أنواع الحيوانات، وصولاً إلى الآلهة. هنا أيضاً لكل "شيء" تحتويه هذه الطبيعة مشاعر وأحاسيس، وعواطف من حب وكره، وعشق، وتزاوج بين كل مكونات هذه الطبيعة التي ينجدل الجميع بها، ويتماهى ويتكامل.

كتاب "من الحكايات الشعبية لسكّان أمريكا الأصليين" والذي يكمله مُعده بعنوان آخر، للدلالة على غنى قصص هذه الشعوب هو "حكايات من الفسيفساء الأمريكي" يُسلطُ الضوء على عنصر آخر في هذه القصص والحكايات التي تمشي في بحار الأسطورة حيناً، وفي طور الخرافة حيناً آخر. هذا العنصر الذي يأخذ دور البطولة، وهو "الموسيقا". الموسيقا هنا التي من خلالها يتم ترويض الكثير من الشر والوحشية، وأنسنة الكثير من الحالات البرية، وحتى أحياناً تكاد تكون الموسيقا كحامية من هجمات الوحوش التي تبدل شراستها طرباً ورقة بعد سماعها الموسيقا، ومن ثم تكون كطوق نجاة في غابات الخوف وصحارى الوحشة.

يُقسّم مُعد الكتاب قصص شعوب أمريكا الأصليين إلى أربعة أبواب، باب: الأصول، وخلاله تأتي القصص لتشرح البدايات لتكوّن الأشياء والكائنات والأرض والليل والنهار، وخلق العالم وسكانه، وكيف اكتسبت أنواع الحيوانات سماتها البدنية، كل ذلك من خلال روايات هؤلاء السكّان وحكاياتهم. فيما يقدم باب: الأبطال والبطلات والأشرار الحمقى؛ الأنماط الكبرى للشخصيات التي تحفل بها الحكاية الشعبية لسكان أمريكا الأصليين، وينطوي باب: المجتمع والصراع على نظرات في القضايا الاجتماعية ابتداءً من الأخلاق العرفية، وانتهاءً إلى الصراعات بين الزمر الاجتماعية. وآخر أبواب الكتاب، هو باب: ما وراء الطبيعة، وخلاله يتم التركيز على حكايات تراثية عن الموت والسحر وفظيع الشرور.

في قصص الكتاب، سيُلفت انتباه القارئ على أمر هام جداً، وهو تقاطع هذه الحكايات في الكثير من تفاصيلها، كما تشترك بالكثير من الشخصيات مع تفاصيل وحبكات قصص العالم في مغرب الأرض ومشرقها، وكذلك هذه "الشخصية" الحكائية التي هي ذاتها تتكرر في قصص الكون سواء كان دورها أن تلعب أدوار الخير والبطولة، أو دورها الخوض في وحول الشر والحماقة، حتى إن الكثير من هذه الحكايات تشترك مع الأديان، وهذا أمرٌ لافت آخر، سواء كانت أديان سماوية، أو أديان فلسفية، والأمر المختلف هو الأسماء فقط، فالمرأة البتول التي تلد هادياً ونبياً بدون زواج، سيكون لها الكثير من المشابهات والمثيلات، وحكايا الطوفان هي الأخرى سيكون لها الكثير من معادلات الحكايا. والشجرة المباركة في الأديان لها غابات تشبهها من الأشجار، تلك الشجرة التي تتعاطف مع القديسين والأنبياء، وتُشكّلُ لهم ملاذاً أمناً يكفيهم شر الوحوش وشر الجوع.

ثمة تشابه كبير بين الحكايات غرباً وشرقاً. ذلك أن أطراف عدة ساهمت في هذا النبع الكوني المشترك، والمواقع الجغرافية لمنشأ الحكواتية والحكايا، فالأمم ذاتها هي سرديات ومرويات؛ إذ لا يوجد شعب – حسب رولان بارت- لا في الماضي ولا في الحاضر من غير حكاية، فهي حاضرة في الأسطورة، والملحمة، والتاريخ، والمسرح، والفيلم السينمائي، واللوحة. الحكاية التي تسبقُ كل تاريخ مدوّن، وهي أسلوب تعبير، يُشكّل السردُ أساسه.

وهنا أيضاً يمكن للمرء أن يتساءل: ما الذي لم تقله الحكايا صراحة، أو ما الذي لم تشر إليه، أو عبر رموزٍ شفيفة؟ فحكايا المهابهاراتا، والإلياذة، والأوديسة، وغيرها، هي جداول من حكايا اتحدت في مجرى واحد، فصارت ملاحم. كما اجتازت بعض الحكايا آلاف السنين ووصلت إلينا كأنها البارحة، في حين تهرمُ أعمال كثيرة في عقد من السنين، أكثر، أو أقل، وثمة أعمال تولد هرمة فتموت في حضانتها.

----

الكتاب: من الحكايات الشعبية لسكان أمريكا الأصليين

الكاتب: تومس أ. غرين

ترجمة: وفيق فائق كريشات

الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب