قدم رابندرانات طاغور (1861- 1941) شاعر الهند الكبير للتراث الإنساني أكثر من ألف قصيدة شعرية، وأبدع على مدى نحو ستين عاماً، كمعلم روحي بالدرجة الأولى، ومجدد أدبي واجتماعي، وفيلسوف وروائي ومسرحي ورسام، وقبل ذلك كله كشاعر.

كان طاغور ينهل من إرث روحي عريق في أرض البنغال. ولطاغور أيضاً (12) رواية و(11) مسرحية شعرية وموسيقية، فقد كان ملحناً ومجدداً في الموسيقا البنغالية، وثلاث مسرحيات راقصة، وأربع مسرحيات ساخرة، وعدداً من مجلدات القصة القصيرة، ومثلها من كتب الرحلات، ومقالات متعددة في الأدب واللغة والتاريخ والفلسفة والتربية، و(44) ديواناً شعرياً، وعدداً من قصص وأغاني الأطفال أكثر من ثلاثة آلاف أغنية، وثلاثة آلاف لوحة تشكيلية.

وروايته "في البيت والعالم" تطرح موضوع المرأة، وإن كان بشكلٍ بسيط، وهو أمرٌ يسهل استدراكه بعد قراءة الروية، وربطها بالعنوان حيث إن العنوان الأصح كما تؤكد المترجمة هو "بين البيت والعالم "، وهو باعتقادي العنوان الأصح، لأن انتقال المرأة في البيت من "أندر محل" وهو عبارة عن الأقسام الداخلية من البيت في الهند التي كانت بشكلٍ أساسي مكان إقامة النساء، وحيث كان محرماً عليهن أن يجلسن خارجه، وهو يشابه ما يسمى بالعربية الـ "حرملك" إلى قاعة الاستقبال حيث يمكن فيها أن تتحرك بحرية، وتلتقي بالناس بعيداً عن توافه نساء الحي، والذي هو جزء مهم من حرية المرأة في ذلك الوقت، وفي بلدٍ مثل الهند.

ففي هذه المسافة الصغيرة، تنتقل المرأة مسافات على مستوى حريتها وشخصيتها وحياتها، ذلك ما ركّز عليه طاغور في الرواية. الأمر الذي عرف عنه؛ هو تلك الحساسية الجندرية. هذا في البعد القريب للمعنى الذي أراده طاغور، لكن للعنوان إسقاطات أخرى.

إذ تتوضح في النسق العام ثلاث شخصيات رئيسة، ستشكّلُ فيما تُشكّل أقطاباً لحب تتنازعه الشهوة، والمصالح، والعلاقات الإنسانية، كما يتنازعها الصدق، والخيانة. هذه الشخصيات هي: (بيمالا) زوجة المهراج (نيكهيليش)، وهو أرستقراطي، ذو ثقافة إنكليزية تتداخلها آراء ليبرالية وإنسانية عالمية. أما (سانديت) الرجل الثاني في حياة (بيمالا)، وهو صديق (نيكليهيش)، مناضلٌ وطني ناشط، ولكن بشخصية وتوجهات مختلفة تماماً عن زوجها ذو الأخلاق العالية والتوجه الاستبطاني، فهو عدواني يعرف كيف يصلُ إلى ما يريد مهما كانت الوسيلة، ومع إحساسها برغبته بخلخلة حياتها، ومحاولة استمالتها الجنسية تحت مسميات متنوعة، إلا أن تجسيده للشخصية الناشئة الطامحة إلى الوحدة والاستقلال التام، هو ما فتنها حقيقةً وشدّها إليه. ومن ثمّ لعب دوره من خلال ما رأى في (بيمالا) إمرأة كاملة الصفات كرمز للأمة – كأم ومعبودة، ولو كان ذلك هو موقفاً ظاهرياً لاستمالتها وشدّها إليه. وبين هذه الشخصيات الثلاث تتشكّلُ الرواية، حيث يُقسّم الكاتب الرواية إلى ما يشبه الأبواب، كلُّ واحد معنون باسم واحد من الشخصيات الثلاث، فمرةً بيمالا، ومرةً نيكهيليش، وثالثة سانديت. وذلك عبر بوحٍ ذاتي أشبه بكتابة المذكرات، لكنه يتعدّى هذا الأمر، ذلك أنه يتفاعل مع الحاضر، وينفتح على قضاياه التي تتسعُ لحظةً بلحظة. فكلُّ واحدٍ من هؤلاء يروي الحكاية من زاويته. هذا المثلث الغرامي بحسب تعبير المترجمة ومن وجهة نظره الخاصة، والأمر ينسحب على القضايا المطروحة في ذلك الوقت والتي تُعدُّ أفكار طاغور التي طرحها في أكثر من مجال كفكرة الأمة مثلاً سواء كمفهوم نظري أو كممارسة كره للأجانب على سبيل المثال، وبهذه الطريقة يستطيع طاغور أن يختلق عملية تدوير للحكاية، هذا التدوير يكون قادراً، وبشكلٍ دقيق على الغوص عميقاً في الشخصية وفضح كل ما تخفيه، وقول كلّ ما تتجنب قوله عبر هذا البوح الذاتوي.

وهكذا نستطيع ببساطة أن نقرأ أن (نيكهيليش) أراد من (بيمالا) أن تتجاوز عتبة نساء الحي، وأن تتحرك في قاعة الاستقبال، حيث فيها تتمكن من الاجتماع بأصدقائه وأن تهتم بقضايا أكبر من توافه الحياة المنزلية، رغم مقاومتها في البدء، وهي الخطوة الحقيقية للخروج من البيت باتجاه العالم. كما أنها خطوة لم تكن سهلة على (بيمالا)، لكنها رضخت لها فيما بعد، عندما وجدت دافعها الشخصي، وعبّرت عنه برغبتها في لقاء (سانديت) بعد خطاباته الحماسية حول القضايا القومية المتقدة التي ألقاها على حشود الجماهير، هنا شعرت أنها ألهمت لاتخاذ الخطوة الجريئة في الجهاد الوطني.

(بيمالا) التي افتتنت (بسانديت)، لأنّ موقفه القومي كان أكثر حماساً وإبهاراً وسحراً من موقف زوجها المسالم المعتدل، فقد شاركت (بيمالا) في مناظرات ونقاشات في حفلاتٍ رسمية مع (سانديت) حول أجندتهم السياسية بعد استهانتها بنظم الأجنحة الداخلية للبيت وبواجباتها المنزلية الرتيبة، ومن ثم كسبت بجهدها ثقافة سياسية واجتماعية بانيةً لنفسها ركناً خاصاً في نطاق عالمها المنزلي والاجتماعي والسياسي. غير أنّ الأمر كان أبعد من ذلك، فقد ساعدت شخصية (بيمالا) في تكوين أفكارٍ مستقبلية، ومثُل، وقيم للأنوثة الهندية عامة، وأعطت استقلالية ذاتية لنساء ذلك العصر، وطرحت فوق ذلك كله مفهوماً بديلاً للذكورة، ومفهوماً جديداً لمنظومة القيم بكاملها كي تكون أكثر ملاءمة لمفهوم الرجولة الحقيقة.

وإذا كان البيت في العنوان قد ينحصر في العالم الداخلي، والمقصود به هنا أمران: البيت بأجزائه كغرف، والبيت الداخلي الذي هو النفس البشرية، أي الداخل الذي هو أعماقنا، أما الخارج الذي يبدأ من الخروج من (أندر محل) أي السكن الداخلي للنساء إلى غرفة الاستقبال، حيث تستطيع المرأة أن تخطو الخطوات الأولى صوب تحقيق وجودها كامرأة وإنسانة إلى العالم الخارجي حيث يقبع الفقراء والكادحون والمهشمون والمهددون بلقمة العيش. و(نيكهيليش) هو الذي يمتلك النظرة البعيدة التي يستطيع من خلالها اكتشاف حياة الضيق والمعاناة التي يعيشها أولئك المعدمون. ومن جهة أخرى تجدر الإشارة إلى ذلك العالم الذي تم إفقاره، وتشكله بأفكارٍ أصولية متعصبة للطبقة الاجتماعية والطائفية، وبالخرافة، وعدم التسامح الديني، وحتى بالتعصب للمنتجات المحلية، ورفض البضائع المستوردة، وهي أمور يرفضها (نيكهيليش)، ويطرحها بأسلوبٍ وأفكارٍ راقية.

وهنا يجب أن نشير إلى أن الرواية تنتقد محاولات حركة "السودايشي" - أي مقاطعة البضائع الأجنبية - التي اتخذت مظهراً وطنياً، ولكنها كانت ذات أهداف اقتصادية قصيرة المدى برؤى لا تستشرف الأهداف البعيدة، وتدوس فوق المعيشة الهزيلة للإنسان دون رحمة أو رادع أخلاقي مستخدمةً الطقوس الشعبية لاستخدام واستغلال التزلف للأمة، فيما مقاصدها النهائية هي تغطية أرباح القادة الذين يسحرون الشعب.

في "البيت والعالم" لم يتقصد طاغور الحكاية كرمز بأشخاصها، بل ما أراده حقيقةً - وعلى حد تعبيره - هو رجع الصدى للدموع والألم والفرح عبر الفعل ورد الفعل الإنساني داخل الإنسان، وفيما حوله.

رابندرانات طاغور شاعر ومسرحي وروائي بنغالي. ولد سنة 1861 في القسم البنغالي من مدينة كالكتا، وتلقى تعليمه في منزل الأسرة على يد أبيه (ديبندرانات) وأشقائه ومدرس يدعى (دفيجندرانات) الذي كان عالماً وكاتباً مسرحياً وشاعراً كما درس رياضة الجودو. وكانت وفاته عام 1941، وهو من الكتاب العالميين الذين نالوا جائزة نوبل في الأدب عام 1913.

توصف فلسفة طاغور بأنها فلسفة الأمل والثقة بالإنسان، المبنية على تفتح روحه، وتطور وعيه، وتحقيق طاقاته. ولهذا فقد ارتبطت المثالية الإنسانية عند طاغور بالعمل والتطبيق، وكان هو نفسه مثالاً لكلِّ مبدأ أعلنه أو فكرة نادى بها.

----

الكتاب: في البيت والعالم، رواية

الكاتب: رابندرانات طاغور

ترجمة: الدكتورة ماري شهريتان

الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب