في منزل معتزل، من أحياء "شارلفيل" في مقاطعة "الآردن" في فرنسا، سيشهد عام 1854 ولادة طفل ذي عينين زرقاوين يقظتين، وجبهة واسعة منتفخة، وشعر كستنائي لامع، وأنف قصير، فيه خنس، وفم مرهف مكتنز، هو (جان آرثر رامبو)، سيعيش الحياة بسرعة. ويقول كل شعره عندما يبلغ الثامنة عشرة، وحينها يكون قد جالَ نصف العام أو أكثر عندما يصل مرافئ الحياة الأخيرة وهو في سن السابعة والثلاثين في عام 1891.

شهد المارة في الشارع الرئيسي من شارلفيل بكثير من الدهشة والشفقة موكباً صغيراً لجنازة متواضعة لم يكن يمشي فيها سوى امرأتين متشحتين بالسواد، (فيتالي كويف، وإيزابيل رامبو) أم وشقيقة الشاعر، الذي قُدر له أن يكون من مؤسسي المذهب الرمزي في الأدب الأوروبي، الذي أثار ضجةً لاتزال أصداؤها تتردد إلى اليوم لا سيما حول تجربته الصوفية.

وقصة نبوغه المبكر وانقطاعه المفاجئ عن الشعر، وإلهامه العجيب، وصل إلى نوع من الشعوذة في حين تعتبر الكثرة هذا الإلهام شيئاً شبيهاً بالنبوة، مستمدين - حسب صدقي إسماعيل في كتابه المعادة طباعته عن وزارة الثقافة السورية عن رامبو - من إخلاص الشاعر في تجربته الصوفية، وصدقه في التخلي عن الكتابة، ليصل إلى مصاف كبار الشعراء، الفلاسفة كـ: "هولدرلين، فوغالي، وريلكه".

(رامبو - قصة شاعر متشرد) كتاب يروي من خلاله إسماعيل أن رامبو كان يخشى أيام الأحاد الكابية حالماً بالمراعي العاشقة بعيداً عن كل "مقدس" حيث يدخل المدرسة والكنيسة كزوبعة شريرة لا تعرف الاستقرار، ولا تحب النظام "فليس من الحكمة أن نبلي سراويلنا على مقاعد الدرس". وعندما يبلغ الرابعة عشرة ستتحدث شارلفيل بأسرها عن ذكائه. فقد أتقن اللاتينية، وفاز في مسابقة الشعر اللاتيني لعام 1869 بقصيدة تضم ثمانين بيتاً ضمنها صوراً بارعة عن حرب الجزائر، وفي مطلع العام الجديد كان معلموه يتداولون قصيدته الأولى بالفرنسية "هدايا رأس السنة للأيتام" في مئة بيت كرسها لأحزان طفولة مشردة، غير أن (جورج ايزامبارد) مُدرس البلاغة، وهو من الجمهوريين المتشبعين بروح الثورة الفرنسية، والمتحمسين لللرومانتيكية، سيلمس فيه رامبو لهجة حارة، ستغير مجرى حياته فبعد أن يقرأ (بؤساء) فيكتور هوغو، فيكتب قصيدة "الحداد" كأصدق تعبير عن روح الثورة، بعد مشهد بائس لسكير في شارع منتصف الليل. ‏

هذا المزاج البائس سيتغير في ذات ربيع ليكتب قصيدة "أوفيليا" التي استمدها من شكسبير في صورة فذة عن براءة الإنسان، وطلبه اللجوج في أن يتحرر من مفاسد العام بروح صوفية يُخيلُ إليه أن كل ما في العالم من تأمل وإشراق، وما في الأشياء من جمال، ليست إلا ارتعاشة حية لروح عظيمة. فكان أن كتب في نهاية السنة الدراسية قصيدتين هما: "إحساس"، و"الشمس والجسر". كل ذلك والفتى لم يبلغ بعد السادسة عشرة. هذا النبوغ الذي حرك جسد الشاعر، فشرد مشياً على الأقدام ليكتب بعد مسير طويل "حلم من أجل الشتاء"، ثم ليعمل محرراً في صحيفة كبيرة، غير أن قيود العمل أبعد من أنْ تقيده، فكان أنْ توجه إلى بروكسيل، وكالعادة سيراً على الأقدام. وفي هذه الفترة يكتب قصائده الجميلة: "تشردي، الماكسون، الشريرة والمقصف". وكانت كلها استمراراً لذلك الحلم العميق في البحث عن عالم تتنفس فيه الحواس، وتصبح كالموسيقا الراعشة، كإيقاع الشعر. ‏

وعندما يعود إلى (شارلفيل) سيكتب قصيدته "المشدوهين" عن شحاذي المدينة الصغار، ورائعته "الراقد في الوادي"، وشاتماً نابليون وكل الطغاة في قصيدته "القاعدون"، وسيهرب للمرة الرابعة من (شارلفيل)، ويكون قد بلغ السابعة عشرة في مظهر تلميذ شرير تصحبه هذه المرة فتاة سمراء نحيلة، لكن هذه المرة إلى باريس متشرداً على أرصفتها تلهبُ خياله حوادث (الكومون)، وتملأ تفكيره أشباح الثورة والدم، وحيث الجميع على جانب من الوحشية في القتل يكتب قصيدته المريعة "القلب المسروق"، و"مجنون باريس". وبين الفترة والأخرى يهرب من جحيم باريس إلى جمال الطبيعة في (شارلفيل)، فيكتب في نزهات شاردة قصيدة غنائية "عشيقاتي الصغيرات"، وينشأ في أعماق نفسه إيمان بأن العالم ينهار. "هذا العالم الذي يقف دائماً في وجهه فهو من إخفاق إلى إخفاق، ويترجم ذلك في قصيدته "الفقراء في الكنيسة". ‏

وأخيراً يضع فلسفته في الشعر، أمام "تصارع" عدد من المدارس الأدبية، وهي "فلسفة البصير" الشاعر الذي يستشف بكل حواسه وكيانه ماوراء الأشياء. والذي يضعُ يده على الجوهر المقدس في كل مظهر من مظاهر الوجود، وينضج من أعماق نفسه موسيقا الشعر. ولا يتاح له ذلك إلا إذا أصبح بصيراً. إذا كان وجهاً لوجه أمام المطلق، وأمام اللانهاية. عندئذ يصبح إحساسه موسيقا، وانفعالاته صوراً، وكلماته غناء. فالشاعر إذاً هو سارق النار المقدسة حقاً.

ويتناول رامبو في جميع القصائد التي كتبها، فيخيل إليه أنها دخيلة على مذهبه الجديد، لأنه لم يكن فيها ذلك البصير الذي يُعبر عن إحساسه بالقلق في لغة حية جديدة، فينكرها ويطلب من صديقه إحراقها، ويقضي اسبوعاً محموماً في (شارلفيل)، وهو ينظمُ شعره الجديد، فيقدم أروع ما كتب: "ما يقال للشاعر عن الأزهار"، و"المركب النشوان"، وهو لم يتجاوز السابعة عشرة.

ثم بعد علاقة مثيرة وغريبة مع الشاعر (فيرلين)، يتجه (رامبو) نحو الرمزية الحسية، بعد أن بشر مع صديقه بمذهبه الجديد، فلا شيء في الشعر إلا الإيقاع الحار الذي تزدحمُ فيه جميعُ الإحساسات التي يتعرف عليها في ليالي باريس المعربدة من عبير النساء إلى وراء الحشيش، وهذه العلاقة مع (فيرلين)، فيكتب "فصل في الجحيم" يشيرُ فيه إلى ذلك الهوى الرهيب الذي دمرَ حياة الاثنين معاً، وبعدها يكتب "الإشراقات". ‏

وبعد تنقلات (فيرلين ورامبو) بين فرنسا، بريطانيا، بروكسيل، ونزاع رهيب بين الصديقين أدتْ لأن يطلق (فيرلين) الرصاص على (رامبو) لإجباره على البقاء معه. يهيمُ الأخير باتجاه الشرق تاركاً الشعر، إلى الأبد. فيشتغل في قبرص، ويعمل في التجارة بين اليمن وهرر في الحبشة، ويزور مصر، وتزدهر تجارته بين عدن هرر ولا سيما الحرير والأسلحة حتى عام 1890 حيث يقيم في هرر، هناك حيث أنشأ منزلاً كبيراً ملأه بالعبيد، وجعل فيه جناحاً خاصاً للنساء سماه "الحريم" وكأنه أمير من أمراء ألف ليلة وليلة بعد حياة تشرد طويلة، وكان قد بلغ السادسة والثلاثين. ‏

وفي شباط 1891 أحس (رامبو) بآلام قاتلة في ركبتيه، امتدت إلى ساقيه ربما من آثار برد هرر، فيقرر العودة إلى (شارلفيل)، وفي مشفى "الكونسيسون" يعلن الأطباء نهائياً حقيقة مرضه: سرطان في العظام.

----

الكتاب: رامبو، قصة شاعر متشرد

الكاتب: صدقي إسماعيل

الناشر: وزارة الثقافة السورية