صدر كتاب "مختارات من شعر غابرييلا ميسترال – عن الطبيعة" وذلك باللغتين العربية والآرامية، وقد قدم للمختارات وأعدها الكاتب التشيلي باتريسيو بريكلي.

الشاعرة غابرييلا ميسترال، هي شاعرة، مفكرة ودبلوماسية، وكاتبة مقالات، سبق لها أن نالت جائزة نوبل للآداب سنة 1945، وهي إضافةً لما تقدم (مربية)، ومن هنا يمكن تفسير هذه "الهدهدة" في النصوص التي تكتبها، والتي تجعلها تقارب "الترانيم"، بحيث تأتي النصوص كصلوات وتقرباً مع إله كلي القدرة. نصوص تذهب كذلك صوب مناخات الهايكو لا سيما في اقتناص المشاهد من الطبيعة، وفي مختلف الفصول. وهنا لا بأس من التذكير أن النصوص تم تبويبها ضمن ثلاثة أبواب: الأرض، السماء، والبحر. غير أن صياغة المشاهد هنا وتركيبها، ليس بعين الكاميرا، بمعنى لا تنقل لنا الشاعرة المشاهد الطبيعية تسجيلياً، أو واقعياً، وإنما تقوم بكل هذا (التصوير) وفق نظرية المحاكاةحسب تفسيرها في زمنها الإغريقي بمعنى "حين نحاكي شيئاً، فإننا ننتج الصورة الثالثة له"، وهي من هنا إيضاً اختراق في المعاني والرموز، والذي يتكامل مع التشخيص، أو التجسيد الذي يفضي إلى الأنسنة. بمعنى معاملة المشاهد الطبيعية من حولك معاملة الكائن الحي في الكلام، بحيث يجعل الواحد منها يتنفس أو يتحرك أو يتكلم أو غير ذلك مما تقوم به الكائنات الحية المجسمة. لننظر إليها وهي تصف "الطحلب" على سبيل المثال -، وكيف قرأت من خلاله حالة التواضع الإنسانية، والإرادة التي يطمح إليها هذا الكائن النباتي:

"الطحلب المخملي،

الطحلب الطفل الصغير جداً،

المتواضع والخفيض والثخين..

لا يريد أن يكونَ عالياً

مثل الصنوبر،

ولم يلتمس أن يكون قبلة الانتظار،

أو أن يزهو بأغصان،

هو يستريح، يستريح، ويستريح،

ويلزم الصمتَ معانداً

البيوتَ الخالية من سكانها،

والحديقة المهجورة".

وغير الأنسنة، فإن من ملامح شعر غابرييلا ميسترال، يوصف – حسب النقاد التشيليين – بأنه مصمم من قبل رائية "رأت من خلال شعاع روحها؛ أن الطريق الذي يتبعه العقل سيصل قريباً إلى الهاوية"، ويفسرون الأمر؛ إن إفلاس العقل المتفاقم والمقرون بكثرة الكلام، أتعبنا وجعلنا أمواتاً في عالمنا اليوم، والذي هو كان (الغد) بالنسبة إلى غابريبلا. وهذا ما عبرت عنه من خلال الملمح الرابع الذي يمكن أن يتبينه القارئ لشعرها، أي في الشعر الذي توجهت به إلى الأطفال، فقد ذكرنا أنه في قائمة الأعمال التي قامت بها؛ إنها كانت (مربية)، وهو الأمر الذي سينعكس جلياً في قصائدها التي تكتبها، وتصيغ جمالياتها على وقع خطا الأطفال، ولا سيما من خلال طريقتها الخاصة في كتابة هذا المنحى من الشعر، في أغاني للنوم وكذلك في الـ"تهويدات"، وغيرها. وهي في هذه التنويعات الشعرية الرائية، لا تضع نظريات حول أقدام الأطفال الصغيرة – كما تجسد ذلك في أحد نصوصها – غير أنها تصرخ بقلبها، وتتهمنا بالعمى:

"إن الرجلَ الأعمى،

يجهل

إنها تترك وردة شعاع حية

في كل مكان

تمر منه قدما طفل".

من هنا، فإن هذه الشاعرة التي كانت مساحة شعرها، على مدى الطبيعة، من أرض وسماء وبحر، والمفعمة بروح الطفولة ونقائها، كتبت كل ما كتبت من خلال لغة وصفية دافئة تقارب من خلالها حالة من الطهرانية النقية. حيث يبرر معد هذه المختارات الشعرية، الترجمة إلى الآرامية بالقول: تم اختيار تسع عشرة قصيدة حول الطبيعة، وتمت ترجمتها من اللغة الإسبانية إلى العربية، ومن ثم من العربية إلى الآرامية. حيث يدخلنا اختيار هذه القصائد في عالم جديد من الشعر الذي يتم غناؤه، وهذا يعني أن الشاعرة تغني، وتنتشر باللغة التي تقودنا إلى لغة السيد المسيح. فشعرها هنا ليس مترجماً من مكان لم يعد ساكنوه يتحدثون لغته، مثل اللغة اللاتينية في كاتولو، أو اليونانية في بيندارو، وإنما يأتي مترجماً من "مكان" مازالت اللغة فيه حيةً، ويتحدث أهل المترجم بها. لغة في غاية القوة الروحية: إنها الآرامية، وهذه برأي باتريسيو بريكلي عودة إلى الأصول الثابتة في معلولا السورية، وبما يحيطها، كما يأتي الأمر كهدية لشعر غابريبلا، كما هو هدية لإنسانيتنا أيضاً. أما مترجم النصوص إلى الآرامية فيذكر: لم أعانِ أية صعوبة في ترجمة القصائد للآرامية، فالتراكيب جاءت تعبيراً عن الروح الإنسانية جمعاء، كما أنني أردت من هذه الترجمة أن تصلَ اللغة الآرامية لأبناء وطننا في أمريكا اللاتينية، الذين لا يزالون يحملون الحنين إلى الوطن، وإلى اللغة التي في أعماقهم.

ولأن الأمر كذلك، فإن غابرييلا، تكتب من مناخات غير ملوثة، أو كما يذكر معد المختارات، بقيت تكتب من قرية صغيرة قليلة السكان، وحولها الكثير من الأطفال، الذين تعتبرهم روحها وأولادها. حيث تضع نفسها إلى جانبنا كرائية تعيش المستقبل من خلال الرؤيا بعين القلب، ودون أن تتأسر بمدارس الشعر أو اتجاهاته، وإنما من خلال الكلمة العفوية التي تمشي على حواف الطفولة بكل نقائها.

لنقرأ في قصيدتها التي عنونتها بـ (الأرض)، حيث نتلمس حالة وصفية مفعمة بالمزج بين الواقع والأماني، لتأتي بالصورة المشتهاة للأرض التي تعشقها، فهي هنا ليست أي أرض، أنها الأرض التشيلية، أرض الوطن، التي هي أغلى الأراضي:

"لنرقص في الأرض التشيلية

الأجمل من ليا وراكيل:

الأرض التي تكون الرجال

الشفاه البلا حقد،

الأرض الأكثر خضرة من البساتين،

والأكثر شقرةً من الحصاد،

والأكثر حمرةً من الكروم..

غبارها خدودنا

نهرها ضحكتنا

فلنعمر

وجهها بالأغاني".

----

الكتاب: عن الطبيعة، مختارات من شعر غابرييلا ميسترال

الكاتب: باتريسيو بريكلي

ترجمة إلى العربية: ناديا ظافر شعبان، ترجمة إلى الآرامية: جورج مخائيل زعرور

الناشر: دار دلمون الجديدة، دمشق