إن الدارس للسيرة الذاتية لكارل غوستاف يونغ، لن يجد أحداثاً بالمعنى المفهوم، بل يجد تيارات فكرية وتجارب ترمي إلى اكتساب خبرات خاصة بأعماق حياة الإنسان، مثلاً في الأديان التي درسها لفترة طويلة، وفي الأساطير باعتبارها منجماً حافلاً بالمعادن الثمينة من الرموز والأنماط الفطرية.

إن دراسته للغنوصية وهي مذهب ديني مسيحي نشأ في القرن الثاني للميلاد، تبيّن أن يونغ كان يرى فيها تعبيراً يتشبه بالدين وحسب، لكنه يدل على الطبيعة المركبة لفطرة الإنسان، وكيف يتدخل فيها اللاوعي، حيث يفسر يونغ اضطرابه النفسي الذي شفي منه في العام 1918 بأنه كان تجربة مع اللاوعي، وهي التجربة التي يقول عنها صمويلز إنها تؤدي إلى نشدان الصور المختلفة لوجود اللاوعي الجمعي مثل الأساطير والخيمياء، وقد كانت الخيمياء في البداية مشروعاً لتحويل المعادن الوضيعة إلى معادن نفيسة وعلى رأسها الذهب، لكن الذي اجتذب يونغ إليها طابع ممارستها لا نتائجها. فعندما تبحّر في تاريخ الخيمياء اكتشف أن تجارب الكيميائيين البدائيين لم تكن موضوعية بحتة، بل تجمع بين الذاتية والموضوعية. فالخيميائي يتحول هو نفسه في أثناء محاولته تحويل شيء منحط إلى شيء ثمين، والتحول هنا نفسي يراه يونغ في صورة تضافر اللاوعي مع الوعي.

وفي دراسته للاوعي الجمعي، لم يتخلّ عن منهجه العلمي الذي يسمى التجريبي اصطلاحاً، فقد قام برحلات أنثروبولوجية إلى الهنود الحمر من قبائل ييوبلو في ولاية نيومكسيكو، ثم سافر إلى كينيا وقضى فترة مع قبائل الغوني، فكان يسجل ما يرى ويسمع، خصوصاً ما بدا له من رموز بشرية عامة، وهذه الرموز التي كان بعضها ذا شكل هندسي ترمز للذات في التحليل الذي وضعه يونغ، وفي جوهرها توجد النفس، وقد رأى يونغ أن القبائل البدائية تستعملها للإيحاء دون وعي منها بالكامل أو الاكتمال، وهو اكتمال من نوع خاص، لأنه يقوم على الحركة التي يحسها الرائي، وكانت الحركة عنصراً مهماً في تصور يونغ للنوازع البشرية التي قد تنحرف فتؤدي إما إلى الهستيريا أو الشيزوفرينيا. فمن خلال تصور هذه وتلك في شكل حركي تدل عليه المندلة، تكون الهستيريا حركة دائرية تدفع بالوسط إلى الأطراف، أي تدفع ما يكمن بسبب الكبت في اللاوعي إلى أطراف الدائرة، حيث يتعلق المريض بالأشياء الخارجية ويمنحها قيمة شعورية. أما الشيزوفرينيا فتدفع الأشياء الخارجية إلى الباطن، حيث يجد المريض المعنى والقيمة الشعورية فيما لا يدركه، وما يمكن أن ينتمي إلى اللاوعي. وهنا يرصد يونغ استعمال أشكال المندلة في الأديان المختلفة والحياة اليومية، بل وفي تمييزه بين الشخصية الانطوائية والشخصية الانبساطية، وقد أتاح رمز المندلة أن يشرح لقرائه كيف تتحكم النفس في الذات وتنظيمها.[1]

يونغ واللاوعي الشخصي

يقول يونغ إن كل شيء أعرفه ولكنه لا يخطر ببالي الآن، وكل شيء كنت أدركه يوماً لكنني نسيته الآن، وكل شيء أدركته حواسي ولم ينتبه إليه ذهني الواعي، وهو كل شيء أشعر به وأفكر فيه وأتذكره وأريده وأفعله بلا طواعية ولا انتباه له، هو جميع الأشياء المستقبلية التي تتشكل في داخلي وسوف تنتقل يوماً إلى الوعي، كل ذلك هو محتوى اللاوعي. وإلى جانب ذلك لا بد أن نضيف حالات الكبت المقصود إلى حد ما للأفكار والمشاعر المؤلمة، وأنا أُطلق على مجمل هذه المحتويات صفة "اللاوعي الشخصي".

ولقد كان من أحد أوجه اختلاف يونغ مع فرويد بأن المركبات التي يتشكل منها اللاوعي الشخصي قائمة في الأصحاء والمرضى على حد سواء، بل كان يرى أنها نويات قائمة في كل نفس، على عكس فرويد الذي كان يرى أنها تقتصر على المرضى. وقد كان يونغ يرى نتيجة لتطبيقه اختبار تداعي الألفاظ أن هذه المركبات تتصرف كأنما كانت كائنات مستقلة لكل منها نواة أو هي نفسها نواة. لكن السؤال الذي لطالما شغله كان عن كيفية تحول نمط فطري في اللاوعي الجمعي إلى مركب في نفس الشخص؟ وقد بيّن الدارسون أن هذا السؤال مهم، لأنه يدلنا على الأسلوب الذي تصبح به الحياة الشخصية لكل فرد جزء لا يتجزأ من التاريخ الجمعي للجنس البشري. وبالنسبة إلى يونغ فقد رأى أن النمط الفطري ينشط عندما يقترب الفرد من موقف أو شخص يتسم بخصائص مماثلة لذلك النمط، ومجاورة الشيء أو الفرد الماثل تؤدي إلى اكتساب أفكار أو مبادئ أو مشاعر من ذلك المثيل، فيتحول بسببها النمط الفطري إلى مركب ويبدأ عمله في اللاوعي.[2]

الواعية والخافية

بالنسبة إلى يونغ، فإن الإنسان يستطيع أن يدرك ويفكر ويشعر ويتذكر ويفعل بطريقة غير شعورية، وكل ما يحدث في الواعية يمكنه أن يحدث في الخافية في شروط معينة. فإذا صورنا الوظائف والمحتويات النفسية بمشهد طبيعي ليلي يلعب فوقه عمود من نور كشاف، كل ما يظهر في هذا الضوء من الإدراك فهو شعوري واع، وكل ما يقبع في الظلام فهو غير شعوري رغم أنه حقيقي وفعال. وإذا انتقل عمود النور من موقعه الأول، غاصت المحتويات التي كانت واعية، وجاءت محتويات جديدة إلى الرقعة المنيرة من الواعية. أما المحتويات التي تلاشت في الظلمة، فتظل فاعلة وتشعرنا بنفسها على هيئة أعراض على الأعم الأغلب. ويبيّن يونغ أن فرويد وصف هذه الاضطرابات الأعراضية في "سيكوباثولوجيا الحياة اليومية"، أما البرهنة على الاستعدادات والموانع الباطنة، فلا تكون إلا تجريبياً بواسطة اختبار التداعي.

ويرى يونغ أن الخافية مسألة تتعلق بصميم بدايات العقل وأسسه، وهي أشياء مدفونة في الظلام منذ أزمنة سحيقة، وليست مجرد الوقائع العادية للإدراك الحسي والتكيف الواعي مع البيئة، بل إن هذه ترتد إلى سيكولوجيا الواعية. وقد سبق أن قال يونغ إنه لا يساوي الواعية بالنفس، فالنفس بالنسبة إليه حقل خبرة أشمل وأظلم من الرقعة الضيقة الساطعة النور من الواعية، وفي النفس تندرج الخافية أيضاً.

وفي أحد أبحاثه حاول يونغ أن يعطي نظرة عامة عن بنية الخافية، فقد بيّن أن محتوياتها وهي النماذج البدئية، هي الأسس الخبيئة من العقل غير الواعي، أو هي الجذور التي غورتها النفس لا في الأرض بالمعنى الضيق بل في العالم عموماً، والنماذج البدئية تمثل من ناحية قوة محافظة غريزية شديدة، ومن ناحية ثانية أفعل وسيلة متصورة في التكييف الغريزي، وهي تمثل الجزء من النفس الذي تتصل من خلاله النفس بالطبيعة، أو تبدو فيه صلة النفس بالأرض والعالم على أكثر ما تكون حسية.

ويشير يونغ إلى أنه يحيط بالواعية الفردية بحر الخافية الغدار، ولهذه الواعية التي تخصنا مظهر الاستقرار والثقة، لكنها في الحقيقة شيء هش يقوم على أسس قلقة جداً، وفي الغالب لا نحتاج إلى أكثر من هياج شديد حتى ينقلب ميزان الواعية الشديد الحساسية، والكنايات التي نستخدمها في كلامنا تنبئنا بذلك، فقد نقول "خرج عن طوره غضباً، أو نسي نفسه تماماً، أو شيء يجعلك تخرج من جلدك....إلخ". جميع هذه العبارات المألوفة تبيّن مقدار السهولة التي تتمزق بها واعيتنا الآنية بتأثير الانفعالات. وغالباً ما تكون هذه الاضطرابات مزمنة ويمكنها أن تحدث تغييراً دائماً في الواعية. ونتيجة لهذا الهيجان النفسي تغوص أجزاء كاملة من وجودنا في الخافية، والاضطرابات التي تنجم عن الانفعالات نعرفها فنياً بأنها "ظاهرات انفصال" تدل على انشطار نفسي. وفي كل نزاع نفسي يمكن أن نميز انشطاراً من هذا النوع، وقد يذهب بعيداً ليهدد بنية الواعية المبعثرة بالتفسخ التام.[3]

----

المراجع:

[1] علم النفس التحليلي عند كارل غوستاف يونغ، محمد عناني، مؤسسة هنداوي، ص 66- 67- 68

[2] المرجع السابق، ص 95- 96

[3] دور اللاشعور ومعنى علم النفس للإنسان الحديث، كارل غوستاف يونغ، ترجمة نهاد خياطة، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ص 40- 41- 73