إن الأحداث التاريخية التي جرت بين منتصف القرن السادس وحتى بداية القرن الخامس الميلادي، والتي تمثلت في الصراع الطبقي الشرس بين الشعب والأرستقراطية والإصلاحات الاجتماعية التي نجمت عنه، والقتال الضاري الذي خاضته المدن الأيونية للحفاظ على استقلالها، والنهاية المأساوية لهذا القتال، ثم الحروب اليونانية الفارسية التي شهدها هيراقليطس، كل ذلك كان له تأثير عميق على نظرته للعالم. وبالنسبة إليه فإنه يجعل الحياة صراعاً دائماً وصراعاً فردياً على الأخص، ما يولد انطباعاً أنه يهاجم كل العالم المحيط به.

شهرة هيراقليطس الذائعة تصوره إنساناً بالغ الترفع يبتعد دائماً عن الجمهور كأرستقراطي فخور بكونه كذلك، ويقال إنه كان غريباً من طفولته، حتى إنه نال لقب "الفيلسوف الباكي"، وكل الأساطير تشهد على شعبيته أكثر من أي شيء آخر. ويبدو أكيداً أنه كان شخصاً انفعالياً لا يتمكن دائماً من السيطرة على نقاط ضعفه الإنسانية، فموقفه حيال الأكثرية من الجمهور كان سلبياً بوضوح، وهو يقول ذلك بلا مداورة.

كما أعطى الفيلسوف أهمية كبرى للضرورة والإكراه أو للقانون كقاعدة حقيقية، ونادراً ما كان يرى فروقاً نوعية أساسية بين حياة الطبيعة وحياة المجتمع. كما أنه لم يُقم أي فرق جوهري بين قوانين الكون وقوانين الحق. واعترافه بتفوق القانون يجعله نصيراً للقواعد التي وضعها صولون وخصماً للحق العرفي، ذلك الحق الذي يسمح للأرستقراطية بتفسيره لصالحها وتبرير كل التجاوزات.

ولقد ظل اسم هيراقليطس من الأسماء الأكثر شعبية في تاريخ الفكر الفلسفي، وقد حرص الفلاسفة من الاتجاهات والتيارات المختلفة أن يدلوا برأيهم حول هذا الموضوع، فانتقد أفلاطون أفكاره، وناقشه أرسطو، وعاد الرواقيون إلى آرائه، كذلك أول آباء الكنيسة واللاهوتيون والكتاب الصوفيون، وكان هيغل معجباً به، وكتب عنه لاسال كتاباً خاصاً في مجلدين، واعتبره نيتشه من كبار الفلاسفة، ورأى فيه الوجوديون المعاصرون سلفهم البعيد، أما الفلاسفة المتدينون من المذاهب كافة، فبعد أن نصبوه أباً لمذهب اللوغوس وللكلمة الإلهية، أعلنوا أنه كان أول لاهوتي وأول مفكر ديني.

ولقد كان أسلوب هيراقليطس بشكل عام رصيناً متأنقاً، لكنه لم يخلُ أحياناً من الإقذاع والسخرية اللاذعة، والمرارة في عباراته ناتجة عن قناعته أن من يتكلم بلسانه هي الحكمة الكونية "اللوغوس"، وهو واثق أن اللوغوس عنده ليس عقيدة عابرة وهو ليس خاضعاً للقانون الذي اكتشفه بنفسه.

كما أن هيراقليطس يبحث في اللغة عن كلمات تعبر عن الطبيعة التناقضية الملازمة للأشياء، وعن وحدة الأضداد، وكلمة لوغوس سواء من حيث وضعها السماعي أو من حيث معناها اللغوي الأصلي ليست على علاقة وثيقة بالجوهر العام للكون، وقد يكون هذا السبب الذي جعل هيراقليطس يستخدم كلمات أخرى للدلالة على هذا الجوهر كالاسم الميثولوجي "زفس"، واللوغوس عند الأفيزي من حيث هو الحكمة العليا لا يقبل لنفسه اسم "زفس"، ذلك لكونه ليس مجرد إله أحد فردي مثل "زفس"، وبالتالي يمكن أن يسمى "زفس" فقط بمعنى الشمولية التي تجسد وحدة الأضداد، وتحكم كل شيء، بمعنى مصدر الحياة وكل شيء.

ولقد أحب هيراقليطس الكلمات ذات المعاني المتعددة وديناميكية الكلمات في أمثلة الفصاحة، فالكلمات تكتسب لديه حسب إطارها معنى مختلفاً حتى في الجملة نفسها، ذلك من خلال التركيز الذي يضعه فيها. والصور عنده تختلط بالمفاهيم، ومن هنا يأتي الطابع الشعري لنثره، وهو يفضل بوصفه مفكراً- شاعراً التعميم والتركيب على التفصيل والتحليل، وهو لا يحاول إثبات موضوعاته بقدر ما يحاول إظهارها على ضوء الأشياء والظواهر والعمليات المميزة التي توضحها.

كما يستخدم بشكل متعمد اختلاف الأشكال اللغوية والصور المنطقية بهدف واضح وهو التعبير عن المظاهر المتعددة للمسائل التي يدرسها، لكنه لا ينسى لحظة واحدة وهو يقوّم مفهوم وحدة الأضداد، مفهوم القانون، وهنا يكمن ما يميزه بوضوح أفكاره وأمثاله وأقواله الشعبية والتراتيل عن الأسرار الأورفية وأسرار إيلوزيس.

وقد خرق هيراقليطس قواعد التفكير الشائعة عدة مرات، وأهمل تصنيف المفاهيم إلى عام وخاص، رغم أنه قد استخدمها، كما أنه لم يعر اهتماماً لشرح طبيعة المفهوم وما يعبر عنه، ولم يخطر بباله حتى أن يقوم بذلك، بل انكب بكليته على البحث عن الملموس والصورة الحية التي تتيح له تصور المفهوم العام.

وبالنسبة إلى هيراقليطس فالعام والمفرد والمجرد والملموس والصورة الحسية والمفهوم المجرد مترابطة بشكل وثيق عنده، وهي تشكل صوراً - مفاهيم تركيبية، كما أن ذوبان العام والفردي داخل الصورة – المصطلح هو إحدى السمات الأكثر بروزاً في الأسلوب الهيرقليطي، ووحدة الصورة والمصطلح تستجيب في المذهب الهيرقليطي لوحدة الإحساس والفكرة، والقول والفعل. وتتضمن الصورة المصطلح (الفكرة – الصورة) الهيرقليطية عناصر ظاهرة وخفية، حسية ومجردة، حدسية ونظرية، تظهر من خلال بعضها البعض.

ورغم أن المنهج الهيرقليطي للمعرفة يتميز خاصة بالتمعن الفكري على ضوء وحدة الكل (التآليف)، فإن هذا لا يعني أنه كان عاجزاً عن فهم أهمية التحليل. ولا ينجم عن الطابع التركيبي لفكر هيراقليطس أن الفيلسوف لا يفسر أفكاره لكونه يلبس مسوح النبي ولا يوضحها، بل يكتفي بتعليم الآخرين هذه الأفكار بسبب قناعته الثابتة بصحتها.

ولقد مارس هيراقليطس تأثيراً شديداً على تطور الفكر الفلسفي خلال العصور التي تلت، ويقارن بعض الباحثين منهم "ديلز" من هذه الوجهة بين هيراقليطس وأفلاطون، لكن الموازاة التي يقيمها ديلز لا يمكن القبول بها بشكل مطلق، لكن تأثير هيراقليطس كان هائلاً في الحقيقة، وقد يكون أكبر من تأثير أفلاطون. كما كان لهيراقليطس تأثير ملحوظ على أرسطو، فجدلية أرسطو وأفكاره عن التطور مرتبطة بشكل وثيق بجدلية هيراقليطس.

كما أعار مفكرون وفلاسفة من العصور الحديثة أهمية كبرى لهيراقليطس من بينهم ليبنتس وغوتيه وهيغل، ومؤرخو فلسفة شهيرون أمثال فيلر وغومبرس وتروبتسكوي وتانيري وغيرهم. كما يمكن أن نرى أن مصدر مفاهيم العالم عند سبينوزا وغوتيه وهيغل ومفكرين آخرين حديثين ومعاصرين مأخوذة من مذهب هيراقليطس الأفيزي.

----

كتاب جذور المادية الديالكتية "هيراقليطس"/ ثيو كاريس كيسيديس/ ترجمة: حاتم سلمان/ الناشر: دار الفارابي