بين "النص المسرحي" و"نص العرض المسرحي" مسافة شائكة وإشكالية من وجهة نظر الكاتب والمسرحي السوري فرحان بلبل، الذي يحاول في كتابه "أبحاث في المسرح العربي" القبض على جمر المسرح باعتباره الفن الأكثر حرارة والتصاقاً بجوهر الحياة والقضايا الإنسانية عبر تاريخه الطويل.

ويرى فرحان بلبل أن النص المسرحي هو الذي "يؤسس لمسرح بلد ما، وهو الذي تدور حوله الثورات المتتالية على أركانه التي ما يكاد يثبت عليها حتى تنسفها أجيال الكتاب التالية له، وبذلك يظل المسرح مواكباً للحياة ومعبراً عنها ومتمرداً عليها ومطوراً لها في دفاعه الأبدي عن الحق والخير والجمال". في حين أن نص العرض المسرحي "يموت مع نهاية العرض"، أما النص المسرحي المستوفي لشروطه الفنية الكلاسيكية من صراع وقوة حبكة وبناء درامي متماسك "فيدخل خزانة الأدب ويكون مادة للدراسات النقدية".

وما استدعى هذه المقارنة لدى الكاتب هو فقدان العديد من العروض المسرحية المحلية والعربية للبناء الفني السليم للعرض المسرحي، وذهاب البعض إلى وضع خطة لعمل ما، ثم وضع الكتابة والكلام المناسب له، وليس اختيار عمل مسرحي بنص يمتلك مفرداته ووضع خطة لإخراجه. وكذلك العروض التجريبية التي سادت لفترة طويلة واعتنت بالشكل أكثر من المضمون والبناء الدرامي السليم. وهنا يشير إلى أن مهرجان دمشق المسرحي شهد عروضاً تتسم "بنصوص تمتاز، مهما تفاوتت، ببنية درامية متينة متنوعة المدارس والأساليب"، هذا بالإضافة إلى اشتراط اللغة العربية الفصحى على العروض الراغبة بالمشاركة. ومن هنا يطلق الناقد بلبل سؤالاً مهماً "هل يكون المسرح العربي منذ أكثر من ثلاثين عاماً من غير نصوص تعطيه مكانته؟".

من الطبيعي أن ينتصر رجل المسرح لهذا الفن العظيم، ولكن هذا "الطبيعي" له ما يسوغه، فقد كان مبنياً على كثير من المنطق والتطور التاريخي للمسرح رغم كل التطور التقني والمخترعات الجديدة التي استفاد منها المسرح، فقد "هضم كل الاختراعات. وإذ به يستفيد من الكهرباء لا لكي يضيء منصة العرض، كما كان يفعل أيام الشموع والفوانيس فقط، بل خلق للكهرباء دوراً درامياً حتى كأنها ممثل يقف مع بقية الممثلين، وإذا بها تزيد خشبته بهاء وإثارة".

وأمام المنافسة والخصومة الحادة بين المسرح من جهة والسينما والتلفزيون من جهة ثانية، ينهض سؤال الكاتب: هل انتصر المسرح في معركته؟

لا شك أن السينما ومن ثم التلفزيون قد كانا منافسين شرسين للمسرح، وبدا أن المسرح يفقد ألقه الذي يمتد بعيداً في الزمن قياساً لهذا الجديد. ويرى الكاتب أن المسرح كسب المعركة مع السينما "عندما عاد إلى صقل أداتيه الرئيسيتين وهما الممثل والكلمة، توصل إلى العرض المسرحي المتكامل لكنه خسر معركته مع التلفزيون عندما بدأ المسرحيون البحث عن الوسائل التي تعيد إليهم جمهورهم المسروق منهم". والمشكلة وفق الكاتب أن أولئك المسرحيين راحوا ينافسون التلفزيون بوسائله لا بوسائلهم لأن تكنولوجيا المسرح تظل أقل فعالية منها في التلفزيون، و"هكذا دخل المسرح في نفق الشكلانية".

بالطبع لكل فن مكانته ومجاله، ولا ينوب فن عن آخر، وللمسرح طقوسه الخاصة والحميمة التي تخلق له خصوصية لا تُنافس لكن شريطة أن يقدم طعمه الخاص. ومن هنا يمكن القول "على المسرح أن يعود إلى ركنيه اللذين يقوم عليهما وهما الكلمة والممثل اللذين يخلقان متعة لا يمكن لفن آخر أن يقدم مثلها".

ويلفت الكاتب إلى أن المسرح العربي قام منذ بداياته "على الغوص في حياة الناس" وقد وجد الناس في العقود الأخيرة "أن المسرح لم يعد يهتم بحياتهم فلم يعودوا يهتمون به. ومن هنا جاءت الخسارة الكبرى. وهي أن المسرح صار من غير جمهور". وهذا الكلام لا يلغي أن المسرح قدم شيئاً جديداً على مستوى الشكل، وذلك برأي كاتبنا لم ينقذ المسرح مما هو فيه "صحيح أنه يتألق بأفانين الإبداع الشكلي والجمالي، لكن أحداً لا يهتم به، ولا ينخدعن أحد بجمهور المهرجانات".

وفي مقارنة لافتة بين دور المسرح عند العرب وفهمهم له ونظيره في الغرب، يرى الناقد أنه عند العرب "كان سلاحاً في معاركهم الاجتماعية والسياسية، فإنه ليس شبيهاً بالمسرح في أوروبا. فهو في الغرب متعة وحضارة وثقافة بحد ذاته دون أي هدف اجتماعي، علماً أن المسرح في كل تاريخه كان ذا مهمة اجتماعية، وهم يرتادونه كما نرتاد نحن الموسيقا أو الشعر".

ومن نافذة الوظيفة يذهب بنا الكاتب إلى الحديث عن صورة المرأة وحضورها في المسرح العربي عبر مراحل تطوره العديدة والتاريخية، فهي لم تكن ذات وجود فعلي حين نشأة المسرح العربي، ثم صارت تدافع عن حريتها العائلية في المرحلة الأولى التي تلت نشأة المسرح. ثم صارت تحلم بفعل اجتماعي في المرحلة الثانية، ودور سياسي في الثالثة وهي المرحلة التي جاءت على أعتاب الحركات الثورية في الوطن العربي.

كما يتضمن الكتاب نصوصاً شائقة عن النقد المسرحي وخصوماته التي تصل حداً غير مقبول. وكذلك يتناول عروض مسرح الطفل بالنقد والتشريح مبيناً المشكلات التي يقع فيها البعض ممن يتساهل في تقدير أهمية تلك العروض.

ويبقى المسرح من أمتع وأهم "وسائل السمر، فهو شعر وموسيقا وحكاية وأسطورة وتاريخ وفلسفة وفن تشكيلي. وهو فوق هذا سجل الأمم في أخبارها ومعاركها الفكرية والاقتصادية وجميع شؤونها".

----

الكتاب: أبحاث في المسرح العربي

الكاتب: فرحان بلبل

الناشر: اتحاد الكتاب العرب