مبكراً كان الخيال زاد الإنسان في الانعتاق من جسده ومن المكان. كان الخيال حصانه الأسطوري في طلب ذلك المستحيل سواء الطيران أو الانتقال عبر الزمن والأمكنة، وحتى في صراعه مع آلهة تعددت وجوهها عبر التاريخ بأدوات ذات طابع أسطوري، وغزو السماء بخيال تتقد خصوبته في خلق عوالم لامنظورة.

"المهابهاراتا" كانت أول من اقتحم هذا الأفق الخيالي في القرن الخامس قبل الميلاد، واستمرت كتابتها حتى 400م وشارك في تدوينها مئة شاعر، وتتحدث عن الملك "رايفاتا كاكودما" الذي سافر إلى السماء تلبية لدعوة "براهما"، "ويشعر بالدهشة أن الناس قد تقدمت بهم السن حين عودته إلى الأرض".

الدكتور أحمد علي محمد يأخذنا في رحلة مشوقة ومثيرة، وغنية بالمعلومات، عبر كتابه "دراسات في الأدب العلمي" الذي يطوف من خلال فصوله على طائفة من الحضارات التي عرفت هذا النوع من الخيال العلمي في بداياته الأولى، ثم ما لبث أن توسع واقتحم مجال الأدب عبر مجموعة من الكتاب الذي وجدوا لأرواحهم وخيالاتهم، التي يقف العلم وراء جانب منها، مجالاً فسيحاً للإبداع في عالم الأدب ومزاحمة الأنواع الأدبية التقليدية، بل تخطت ذلك واقتحمت قصص هذا الخيال عالم الفن والسينما وفرضت نفسها بقوة على فضول المشاهد الباحث عن رحلة مثيرة في عوالم الخيال وما فوق الواقع.

يشير د. محمد إلى أن الحضارة الفارسية كانت السباقة إلى معرفة مصاصي الدماء الذين يأكلون لحوم البشر ويتغذون بدمائهم. وفي الحضارة الفرعونية كان "سخمت" وهو إله من آلهة الفراعنة، يُستدل به على مصاصي الدماء. وعرفت الحضارة البابلية أنثى الشيطان "ليليث" التي تتغذى بدماء البشر. وفي الحضارتين اليونانية والرومانية مسميات شتى لمصاصي الدماء مثل "إمبيوسا ولاميا"، الأولى أنثى الشيطان وهي ابنة الإلهة "هيكاتي" وكانت تمارس الشعوذة والسحر، أما الثانية فهي ابنة ملك مصر بيلوس وعشيقة الإله زيوس. وفي ملحمة هوميروس "الأوديسة" عرض لحكاية من حكايات مصاصي الدماء وفيها أن سماع أصوات الأرواح التي لا تموت لا يتحقق إلا بعد أن تشرب الدماء، وأن أوليس قبل أن يبدأ رحلته ضحى بكبش كي تشرب الأرواح الشريرة من دمه ليتمكن هو من التواصل معها.

وقد نشر القس الفرنسي "أوغستين" عام 1746 سلسلة مقالات ينفي فيها وجود مصاصي الدماء، لكن مواطنه الأديب فولتير بعد قراءته لذلك قال: "ما نشره الراهب قد أكد تلك المخلوقات الأسطورية".

وتعد رواية "دراكولا" للكاتب الإيرلندي برام ستوكر رائدة في مجال الكتابة الإبداعية والأدبية، إذ ألفها عام 1897م وإن سبقها بعض الكتابات في هذا المجال. كما برز العديد من الكتاب مثل الأمريكية "آن رايس" التي ألفت كتاباً بعنوان "مقابلة مع مصاصي الدماء" عام 1976م. ثم رواية "ملكة الملعونين" 1988م. وكذلك عرفت الرومانية شارلين هاريس برواية "ميتة إلى الأبد"، ونشرت أعمالاً عن شخصيات أسطورية وعن المستذئبين. ولعل الأمريكية "ستيفاني ماير" المولودة 1973 من أبرز الذين كتبوا في هذا المضمار حيث حازت شهرة واسعة بعد نشر روايتها "الشفق" 2005 والتي ترجمت إلى أكثر من عشرين لغة، وبعد ذلك كتبت "القمر الجديد، الكسوف، والانهيار".

وعرف الأدب العربي، قديمه وحديثه، هذا النمط من أدب الخيال والأدب العلمي، مع ابن سينا ورسالته "حي بن يقظان" وكذلك ابن طفيل على سبيل المثال. وفي الأدب الحديث اشتهر العديد من الكتاب ربما من أبرزهم د. طالب عمران ود. أحمد خالد توفيق.

ويقدم الباحث رؤية ودراسة فنية وفكرية في رواية "سيدة القصر" لطالب عمران الغنية في إيحاءتها عن طالبي جامعة يستأجران عند امرأة شابة وجميلة تسكن في قصر منيف، لكنها تتكشف مع الأيام عن مصاصة دماء تحول حياة الشابين إلى جحيم، عبر سرد مشوق ومثير. ويشير الكاتب إلى المؤلفات الكثيرة للأستاذ الجامعي طالب عمران سواء في القصة أو الرواية والمسرح التي اختصت في مجال الأدب العلمي.

أما د. توفيق فيعد من أبرز من كتب عن موضوعات الرعب ومصاصي الدماء والمستذئبين في الأدب العربي الحديث ضمن سلسلة سماها "ما وراء الطبيعة". وفي روايته "الرجل الذئب" يتحدث عن رجل يتحول إلى ذئب عند اكتمال القمر كل شهر، فيمضي المستذئب سادراً في الغابات والبراري بحثاً عن ضحاياه، وعندما تشرق الشمس يعود إلى طبيعته البشرية.

والأدب العلمي، في جانب كبير منه، سعى إلى محاكاة العلم "لا بل أراد أن يسبق العلم من جهة الرؤيا والتبصر والاكتشاف" معتمداً في ذلك على معارف علمية متخصصة وفي الوقت نفسه على الخيال في خلق عوالم لم يتسن للعلم الولوج فيها بعد.

وفي حديثه عن رواية "فرانكشتاين" للبريطانية ماري شيلي التي نشرت عام 1818، في الفصل الذي حمل عنوان "فرانكشتاين بين الفن القوطي والأدب العلمي"، يشير الباحث إلى أن الأدب والفن القوطي "أمعنا في تصوير مشاهد الرعب بغية انتزاعها من دواخل الإنسان المعاصر لإحداث شيء من التوازن. وقد كانا رد فعل مضاد للثورة الصناعية والأنظمة الاجتماعية الأرستقراطية". وفرانكشتاين شخصية تمثل نهاية القبح والازدراء من قبل صانعها، وذلك عكس "بيجماليون" لبرنارد شو التي تمثل التعلق بالأثر الفني.

أدب الخيال العلمي، بخصوصيته وفرادة العديد من الأعمال التي تناولته، قد جمع بين العلم والأسطورة في نهله من كليهما "الحكاية والتبصر" في عباءة الخيال المجنح، مستفيدين من كل ما توفره الأسطورة وما يفيض به العلم، على كل مستوى، لبناء عوالم تطرق باب المستحيل، الذي قد يتحول بعضه إلى ممكن على مستوى الإنجاز العلمي.

----

الكتاب: دراسات في الأدب العلمي

الكاتب: د. أحمد علي محمد

الناشر: اتحاد الكتاب العرب، 2021