كان الإسلام يوماً بمفكريه وفلاسفته وحتى بفنانيه ومهندسيه الذين إلى اليوم لا يزالون يشغلون الباحثين والنقاد بعمق عبقريتهم وفنونهم العالية. ومنذ انتشر الإسلام من غرب الكون إلى مشرقه يحلق بجناحي الفلسفة والشريعة.

في كتابه الشائق "الجمال والإسلام- جماليات الفن والعمارة الإسلاميين"، ترصد فاليري غونزاليس مظاهر الجمال في الإسلام لا سيما في الفكر والفلسفة وحتى العمارة، وتكثف ذلك بقراءة النظرية الجمالية لأربعة أفذاذ من الفلاسفة المسلمين وهم: ابن حزم المولود في قرطبة - الأندلس سنة 1064م، ابن سينا المولود بأفشانا بجوار بخارى سنة 980م، ابن رشد المولود في قرطبة أيضاً سنة 1198م، وابن الهيثم المولود في القاهرة سنة 965م. حيث كل منهم كانت له رؤيته الفلسفية بالجمال، رؤية أفلاطونية قائمة على ما سبقهم من الفكر الإغريقي والمتماهية مع الفكر الإسلامي، والذين وجدوا ألا تعارض بين الفكر الفلسفي الجدلي وبين الفكر الإيماني العرفاني. ومن ثم كانت نظرياتهم في ماهية الجمال بكل هذا السمو الروحي والفلسفي.

يستنتج المتابع لفلسفة هؤلاء الجمالية، أن الفكر العربي الكلاسيكي نظر إلى الجمال بمعايير ومميزات مختلفة ومتنوعة: بدءاً من الجمال الرفيع السامي في شخص الإنسان المرتبط بالأخلاق حسب نظرية ابن حزم، مروراً بالجمال الذي يخضع لتحديدات وتصنيفات ظاهراتية حسب نظرية ابن الهيثم، وانتهاءً بالنظريتين المتضادتين عن الجمال المشرق الفكر النابع من المصدر الإلهي حسب نظرية ابن سينا، وعن جمال الترتيب البنيوي للعالم المادي حسب نظرية ابن رشد. وبطريقة أو بأخرى نجد في إسلام العصور الوسطى كل أنماط الجمال المنطقي والميتافيزيقي والفيزيائي والأخلاقي. وبالطبع يمكن صياغة حكم مشابه فيما يتعلق بالمفهوم المناقض للجمال – أي القبح – والذي نجده في فكر ذلك العصر بأوجه ومن نواح متنوعة مرتبطة بالفجور والنقص واللاتناسب والجهل والفوضى.

ومن ملامح الجمال في الفكر الإسلامي حكاية النبي سليمان في القرآن الكريم لا سيما من خلال الآية: "قيل ادْخلي الصرْح فلما رأته حسبتْه لجةً وكشفتْ عن ساقيها قال إنه صرح من قوارير، قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين" – سورة النمل 27:44- حيث تقرأ غونزاليس في شرح هذه الآية. ولو انطلقنا من الواقع الحرفي لها، لوجدنا أنها تطرح أمامنا عنصراً جمالياً موضوعياً يتمثل بالتجربة الفريدة لأحد بطلي القصة. تتمثل هذه التجربة في الانخداع البصري لملكة سبأ لدى رؤيتها الأرضية الزجاجية الغريبة والمبهمة في قصر الملك سيلمان. إذاً أمامنا خدعة معمارية وعنصر بشري يرى هذه الخدعة -الحدث الموصوف في النص القرآني، إنما يعبر عن خبرة جمالية في عالم الأشكال البصرية وتحديداً ضمن عالم الفن والهندسة المعمارية.

تشكل تلك الملاحظة سبباً كافياً للاعتقاد بأن هذه الآية القرآنية تحمل بين طياتها إلى جانب الرسالة الدينية فكراً فلسفياً جمالياً، أي ذلك الحقل المعرفي الذي بات يشكل علماً مستقلاً من المنظار المعرفي السائد في الغرب اليوم. وعندما تصل الباحثة للحديث عن قصر الحمراء في الأندلس، فإنها ستفرد الكثير من الصفحات لوصف الحالة البصرية الجمالية ورموزها الروحية والفلسفية الكثيرة التي لاتزال تثير السجالات إلى اليوم في فك معانيها ومدلولاتها الكثيرة، ولعل أبرزها ما ذهب إليه الباحثون في تفسير العمارة في قصر الحمراء بوصفه تمثيلاً بصرياً مباشراً لمضمون النقوش النصية على الجدران في مسعى منهم لتقديم إثبات على صحة النظام التمثيلي للأشكال المعمارية والزخرفية في مجمع القصر عموماً، رغم أن الكثير من الباحثين وجد أن تلك الزخارف تتجاوز بمدلولاتها الكثير من مضامين النصوص السردية المنقوشة على النوافذ والجدران.

وبتوسع أيضاً ستقوم الباحثة بدراسة فن النقوش وفن الخط العربي بوصفهما شكلين أنموذجيين من أشكال الفن الإسلامي، وذلك من حيث صداهما الروحي وقيمتهما الرمزية والصوفية وحتى الحسية الصرفة، وتبعاً للمكان أو المبنى اللذين يزينانها. وأينما تواجدت الصور والكتابة في عمل واحد، فإن الكتابة بالخط العربي تؤدي دوراً حاسماً وإيجابياً ضمن اللغة الجمالية لفن التصوير التشخيصي الإسلامي حتى عندما تسمح الكتابة للمركبة التصويرية بإظهار قوتها التعبيرية كاملةً بوصفها خيالاً قائماً بذاته ومستقلاً تماماً عن الكتابة. كما أن الرابط المتعدد المعاني الذي يجمعهما ببنيتها المادية، وخاصة ما يرتبط بتشابكاتها الهندسية، يبدو كساحة تناقل وتبادل للمعاني بين الفضائين المختلفين في عملية تناوب بين الملء والإفراغ. معان متنوعة دينية وشاعرية وخيالية حالمة. ولا تعد الكتابات والنقوش العربية الإسلامية مجرد نسخة مكتوبة بالحرف عن التصوير التشخيصي البصري، بل إنها منظومة جمالية مستقلة بحد ذاتها يمكن ضمها إلى منظومة جمالية أخرى مستقلة لها نظامها الدلالي الخاص، بحيث تشكلان معاً اللغة البصرية للوسط الذي يجمعهما.

----

الكتاب: الجمال والإسلام، جماليات الفن والعمارة الإسلاميين

الكاتب: فاليري غونزاليس

ترجمة: كارولين توماس

الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب