على حافة الواقعية، ولكن دون الوقوع في إسفاف المباشرة والتسجيلية، يسرد ألفرد دو موسييه رواية (غامياني، ليلتان طافحتان بالمتعة) في مدونة سردية مُفعمة بالرومانسية الإيروتيكية العالية لثلاث شخصيّات: "غامياني، فاني، وألكيد"، إلى جانب الكثير من الشخصيّات التي تبدو ثانوية، لكن سيكون لها الأثر الكبير في مآلات الشخصيّات، وخواتيمها الفجائعية.

(غامياني، ليلتان طافحتان بالمتعة)، التي ألفها ألفرد دو موسييه، أو لويس تشارلز ألفرد دو موسييه (1819 – 1857)، سنة (1833). وخلالها يسرد صاحب (اعتراف طفل القرن)، التاريخ العاطفي لشخصياته الثلاث، ومن ثمّ تكون الرواية من ألف صفحتها الأولى إلى باء صفحتها الأخيرة احتفاءً بالجسد، تماماً كفنان تشكيلي لا يملّ يرسم ويُلوّن جسد النساء في حالةٍ من المرمرية التي لا خواتيم لجمالياتها، دون أن يغفل ذلك عذابات هذا الجسد وتحرقه في عدم ولوجه المتعة الكاملة، أو حتى مُقاربتها أو الوصول إليها، حيث كل متعة تُفضي إلى مُعاناة للوصل إلى متعٍ أخرى من المستحيل إروائها أو الشبع منها. وإنما تماماً لا تملُّ تطلب المزيد من الحطب لنارٍ لا تنطفئ، ومن هنا يأخذ الجسد في حالاته الجحيمية، وليس في حميمياته الجميلة؛ حيث يأتي الحب هنا ككلمة حارقة، او كحامضٍ في الحلق.

لا بدّ لقارئ رواية (غامياني)، من تذكيره دائماً بمناخات القرن التاسع عشر في أوروبا، وفي الجهة المقابلة كان العالم العربي يرزح خلالها تحت الاحتلال العثماني. وهنا لا بد أنّ التحدي كان كبيراً في سرد الرواية الذي يتجاوز الجرأة إذا ما نظرنا إلى السطوة الاجتماعية.

وألفرد دو موسييه، هو ليس كاتب رواية فقط، وإنما هو: شاعرٌ ومسرحي، وهو كذلك كان لايزالُ مُراهقاً حين وقع تحت تأثير قادة الحركة الرومانسيّة مثل: تشارلز نوديي، ألفرد دي فيني، وفيكتور هوغو، وذلك حينما أنتج عمله الأول "كونتيس ديباني إي ديتالي – قصص من إسبانيا وإيطاليا" سنة 1830. ومن هنا يرى الكثير من النقّاد أن ثمة مرجعية طافحة تقفُ خلف روايته – ومعظم أعماله الأدبية الأخرى - التي كانت الرواية الأكثر مبيعاً وجدلاً وسجالاً طوال القرن التاسع عشر، وهو يسرد فيها التاريخ العاطفي الفاحش للكونتيسة (غافياني) منذ أن كان عمرها خمس عشرة سنة، عندما تربت في أحضان خالتها ذات الميول المثلية، إلى تعرفها على راهبة الدير والتي كانت هي الأخرى من ذات الميول، ومن ثمّ كان هذا السلوك المُريب الذي يقتل صاحبته من شدّة الحبّ تأكيداً على أنّ "ومن الحبّ ما قتل" خاتمة لا مفرّ منها لهؤلاء الذين لا يرتوون أبداً، لا سيما بعد تعرفها على الفتاة (فاني) إثر حفلةٍ منزلية كانت دعت إليها الكونتيسة، ومن ثمّ لتقوم بأمر أقرب إلى (الاحتجاز) للفتاة، وقد وقعت في غرامها القاتل حيث كل شيء يحترق بنار الشهوة.

كلُّ هذه السيرة الطافحة التي يسردها الراوي (ألكيد)، الرواي الذي يسرد من وجهة نظره فقط كمراقب مُتلصص لسلوك الكونتيسة، والذي يظهر كلَّ حين غواية ورغبة جامحة ليكون هو نفسه مُشاركاً في الأحداث التي يسردها.

ونعود إلى المرجعيات الكثيرة التي كانت – ربما – الباعث على كتابة هذه الرواية في ذلك الحين من الزمن خلال القرن التاسع عشر، حيث يرى العديد من النقاد، ومنهم صاحب التقديم للرواية جورج برشيني، أن الكثير من التفاصيل في هذه الرواية تأتي من مناخات الحياة الشخصية لـ(ألفرد دو موسييه)، سواء عاشها هو بنفسه، أو عايشها وكان شاهداً عليها، فهو وبعد تأثره بحركة قادة الحركة الرومانسية، كان أيضاً انتقل إلى حياة جديدة مليئة باللامبالاة والتهتك والكحول. ومن هنا ربما جاء هذا عاملاً مُساعداً في كتاباته، حيث يُقدّم أوصافاً حميمية حقيقية نابعة من تجربة شخصية غالباً، ولو بمواقف مختلفة عن الرواية كما في (غامياني). أضف إلى كلّ تلك المناخات التي صنعت منه شاعراً وكاتباً مُتعدد المواهب، يكتب بصياغة غير نمطية، منها مثلاً السخرية الخفيفة، والبراعة في تقنية مُبهرة تُعبّر بشغفٍ وبلاغة عن المشاعر المُعقدة. أضف إلى كل ما تقدّم علاقته العاطفية الشهيرة مع الروائية الفرنسية (جورج ساند 1804 – 1876) واسمها الحقيقي (أمانتين أورو لوسيل دوبين)، علاقة حب استمرت، وإن كانت بشكلٍ مُتقطع، من سنة (1833) إلى سنة (1839)، والتي يُحكى أنها شكلت مصدراً واسعاً للإلهام له في الكثير من أعماله، كما يعترف هو بنفسه، حتى إن ثمة الكثير من الكتب صدرت في فرنسا تتناول قصة حب الأدبين مع الرسائل فيما بينهما.

في (دفياني) أخيراً يُمكن للمتلقي أن يقرأ الكثير في ملامح وتيمات كثيرة تغوص وتسبر العلاقات الإنسانية المتنوعة التي تدور حول الحب والجنس والصداقة والمثلية وبعض ما يكتنفها من ألغاز وغموض. تلك الملامح والتيمات التي تشابكت فيما بينها وصاغها الكاتب من خلال الكثير من الحبكات الشائقة، بعيداً عن التعقيد، وإنما بمخاتلة من البساطة للظن بالواقعية، أو بما يوحي أنها رواية تقوم على أحداثٍ واقعية، وذلك من خلال براعة في التعبير للدخول أو الوصول إلى ما يعتمل في جوانيّات الشخصيّات وفي تحرقها الجحيمي، وأزماتها النفسية والفيزيولوجية، وتعطشها للرغبة القاتلة التي لا ترتوي أبداً، بل لتصير أكثر شراسة، إنها الرغبة التي تفوق الوصف تهزم أواصر الحياة.

ما نختم به أخيراً، تلك التعابير التي تأتي في سياق سرد الأحداث وصياغتها، حيث تبدو أو تصلح كمقولات قابلة للكثير من الإيحاء والتأويل والقراءات المتعددة. يقول دو موسييه: "لا أدري إلى أين يؤدي طريقي، ولكنني أسيرُ بشكلٍ أفضل حينما تمسكُ يدي بيدك"، وهو الأمر الذي دفع بمقدم الرواية لأن يصفها بـ: "تحفةً صغيرة من النثر المُثير".

----

الكتاب: غامياني- ليلتان طافحتان بالمتعة

الكاتب: ألفرد دو موسييه

ترجمة: سوزان عبد الرحمن

الناشر: دار الليبرالية