على مدى ما يُقارب من الأربعين سنة؛ توزعت نتاجات الشاعر الفرنسي أندريه دو بوشيه (1924 – 2001)، وعُرف في الوسط الشعري الفرنسي منذ صدور أولى مجموعاته الشعرية سنة (1950)، ومن حينها قدّم ما يقرب من عشر مجموعاتٍ شعرية، منها: المحرك الأبيض، أو الشمس، التنافر، و(في الحرارة الشاغرة) التي ستكون غاية هذا المقال، حيث اعتبره النقّاد الوريث المميز للاتجاهات الفنية الحرفية لـ"ريفردي".

و(في الحرارة الشاغرة) يُمكنُ لقارئ هذه المجموعة أن يتلمس عدداً من الملامح وسمت قصيدة دو بوشيه. وأظن أول ما سيُلفت انتباهه في تركيب الجملة الشعرية ذلك المشهد الطبيعي، أو المشهد البصري الذي يبنيه على معطيات من مفردات الطبيعة، والتي يُركبّها دو بوشيه أشبه بستارة لمشاعر جوانية داخلية يجد لها معادلات من عناصر الطبيعة، وذلك بإلباس هذه العناصر الكثير من المشاعر الإنسانية لا سيما المشاعر المضطربة منها. هنا حيث "النهار يرتعش، والجدار لا يتزحزح، والنهار الذي يخدش الأقدام"، هنا حيث:

"اليبابُ الذي يكشف النهار

طولاً وعرضاً،

بينما تهبُّ العاصفة طولاً وعرضاً

فوق دربٍ يظلُّ جافاً

رغم المطر".

ومن الملامح التي يُمكن أن تُلفت انتباه المُتابع لنصوص هذا الشاعر، هي ميل القول الشعري لديه إلى التكثيف، وعدم الهدر أو الإطالة، ما يضعه في خانة الأدب الوجيز الذي ميزه الإلماح والإيماض، والنصوص القصيرة. وفيما لو طال النص لديه، فهو يُركبّه ضمن "متواليّاتٍ" شعرية قصيرة إما مرقمة أو بعناوين مختلفة. تلك المتواليّات التي يُمكن للقارئ أن يقرأها كنصٍّ طويل دفعةً واحدة، أو يختار منها المتوالية التي واءمت ذائقته، وهنا الومضة التي قد لا تتعدى أحياناً الثلاث كلمات كـ"الباب، الهواء الأبيض" أو كثل: "قوة السعال، أو عبقريته/ جليدٌ لا يُصدّق".

"الدرب، الدروب، النهار، الجدار، الليل، الجبل، الموج، الغابة، العاصفة.." مفردات لن يملّ من تكرارها أندريه دو بوشيه في نصه الشعري. وهو أمرٌ آخر، أو ملمحٌ آخر يُمكن أن يلفت انتباه القارئ لكثرة ما ترد حتى في النص الواحد. ورود هذه المفردات بعينها بصياغة – غالباً- لا تُشعرنا بالملل والضجر، ولعلّ أكثر تلك المفردات وروداً: الدرب، النهار، الجدار، والهواء.. المفردة الأخيرة التي وردت في أحد النصوص أكثر من خمس مرات مع أنه نصّ لا يتجاوز الصفحة الواحدة.

مفردات يكاد لا يخلو نصّ في مجموعة (في الحرارة الشاغرة) منها، وفي كلِّ مرةٍ تأتي بشواغل وبأغراضٍ ومجازات مختلفة. إنها بتقديري شخصيات الحكاية الشعرية عند دو بوشيه، ذلك وإن كانت من مفردات الطبيعة، لكنه لا يستخدمها كذلك بهذا الوصف كعناصر من الطبيعة وحسب، وإنما كـ "شخصيّات" تقومُ بأحداث الحكاية الشعرية كما أسلفنا، حيثُ كثيراً ما ترد مفعمة بمشاعر إنسانية: تمزّق وضياع وفقد وبرد وغير ذلك.

"قبل أن يضيعَ دربي

فوق سطح الحجارة.

الهواء الذي يحتفلُ بالموجة،

الهواء الذي لا نراه،

مثل الأرض التي عُبرتْ،

بعيداً عن الدروب".

تلك المفردات التي يبني منها مشهده الشعري، بملمحٍ آخر، وهو لا بدّ لافت في مجموعة (في الحرارة الشاغرة)، وهو تركيب المشهد الشعري من كلماتٍ "مُتنافرة" إن صحّ التعبير، أو المتناقضة في تركيبها معاً، وهي كثيراً ما ترد رغم مظهر تنافرها في انسجامٍ تام، وربما مُتكامل حتى وإن سأل المرء: "وكيف ذلك؟!" كما في "عتمة النهار" على سبيل المثال، أو "الجفاف البهاء" وغير ذلك، وإذا ما جمعنا هذه التقنية الشعرية، أو هذه البلاغة مع "مفاجاة" الخاتمة، نعلمُ أن الفعالية الشعرية في نص دو بوشيه تكمن هنا في هذين الملمحين بالدرجة الأولى، إضافةً لما أسلفنا وذكرناه من ملامح.

فخاتمة النص الشعري، غالباً ما تأتي من خارج النص، وليس كما المتوقع من سياقه، وهو الأمر الذي يحدث المفاجأة أو ما يطلق عليه النقّاد بـ"الدهشة"، فمعظم الخواتيم الشعرية لنصوص "في الحرارة الشاغرة"، تأتي مُدهشة غالباً ومن خارج سياق النص، وإن كانت لا تبرحُ مناخاته حيث يضعُ الشاعر فيها ذروة الفعالية الشعرية في تلك الخاتمة الخارجة عن سرب تراكيب النص. وذلك بالكثير من تقنيات الحذف والإضمار التي هي من سمات النصوص القصيرة.

"فلا تكادُ الجبال تخرجُ من الأرض

حين ينهدمُ الدرب؛

أبدّلُ قدمي

المُغطاة في الثلج".

أو

"بدأ الغيابُ

الذي يقعُ في موقع النَّفسِ

بالسقوط من جديد،

كثلجٍ فوق الأوراق.

لاحَ الليل.

أكتب أبعد ما يكون

عن نفسي".

يذكر ألفرد سيابا إيسترادا، الذي ثبت المترجم عبدو زغبور قراءته لشعر دو بوشيه كمقدمة لمجموعة "في الحرارة الشاغرة": جملتان من أندريه دو بوشيه (أكتب أبعد ما يكون عن نفسي) و(لا أذهب أبعد من ورقتي). ربما تخدمان كمفتاح لأجل الاقتراب الأول من عمله الأكثر أصالة وترابطاً. فـ"أكتب أبعد ما يكون عن نفسي"، هذه الإشارة الدّالة تُعبّرُ عن شهيّة الارتقاء بالمشروع الشعري: تأسيس ما هو حقيقي في الكلمات على امتداد البريق الذي يُلازمه، وفي الوقت نفسه، فشل اللحظة ونجاحها. و"لا أذهب بعيداً عن ورقتي"، مهما أمل الشاعر في هذا المكان "الغياب الذي يقعُ في موقع النفس" يعود للاحتفاء بالحضور في إشعاع اللحظة واستهلاكها، علماً أن الكلمة في النهاية، لا تستطيع أن تقوم كقوة مطلقة.

----

الكتاب: في الحرارة الشاغرة

الكاتب: أندريه دو بوشيه

ترجمة: عبدو زغبور

الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب