منذ سنين موغلة في القدم قبل الميلاد، تمثلت البذرة الأولى للفنون الجميلة، في محاولة مقاربة صورة الإنسان. وقد حاول الإنسان في بداية تشكّل وعيه، تشخيص آلهته الكثيرة. والمُلفت أن المُبدع القديم شكّل آلهته على شاكلته وصورته أيضاً في حالة معاكسة، ومنحها مختلف المشاعر الإنسانية من حبٍّ وحزنٍ وغضب وغير ذلك، حسب "التشخيصات" السردية عن الآلهة القديمة، بل كان ثمة تخصص في أعمال الآلهة، هناك آلهة للحب، وآلهة للحرب، وأخرى للخصب والمطر، وثالثة للجمال والخضرة، وغير ذلك؛ مئات الآلهة التي عرفتها عشرات الحضارات الإنسانية في مختلف أرجاء هذا الكون.

التشخيص جزء من الفن، وقد استطاع الإنسان أن يُطوّر صلته بالموضوعات التي يطرحها الفن من خلال تمكين الروابط بين يده وعقله للوصول إلى الحالة التي أضحى عليها الفن اليوم. ومناسبة الحديث عن التشخيص، هو كتاب "التشخيصية" للباحثة يارا معلا، وخلاله تتناول معلا الكثير من التباسات التشخيص والتجسيد في الأعمال التشكيلية السورية، ابتداءً من المفهوم وإشكالاته، منها على سبيل المثال "إشكالية التحريم" و"المرأة في التشخيص السوري" كما تناولت التشخيص بين الماضي والحاضر، الماضي باعتباره اتجاهاً زمنياً تاريخياً، والمفاهيم التي تكونت في الفترات الحضارية المختلفة، ومن ثمّ الإشارة إلى الصلة بين الماضي التشخيصي وحاضره، منذ ظهور عشتار بمختلف تشكيلاتها التي أنجزها الفنان السوري القديم سعياً إلى المغزى، والمفهوم الكامن في تشخيصها على الهيئة التي وصلت إلينا، وحتى الفنون المتنوعة التي نراها اليوم في صالات العرض والمواقع المختلفة، وغيرها الكثير من الأبحاث التي تناولتها الباحثة في هذا الكتاب الذي يذهب باتجاه صيغة وصبغة الموسوعية.

التشخيص الذي كان قد قطع رحلة طويلة، مرّ خلالها في الكثير من الانعطافات – ولن أقول خلال تطوره، لأن ما جاء فيما بعد من تجسيد ربما يكون أقل جمالية مما سبقه – من التجلي الواضح لتفاصيل الجسد، إلى البورتريه، أي الاكتفاء بالرأس والوجه، ومن ثم إلى الاختزال بما يدل على ذلك، وصولاً إلى التجريد. وكان يُرافق كل انعطافة عشرات الأسباب التي تفرض ملامح ومشهدية هذه الانعطافة.

والتشخيص من الشخص، وهو كل جسم له ارتفاع وظهور، وغلب في الإنسان. أما التشخيص في الأدب، فهو إبراز المعنى المجرد، أو الشيء الجامد كأنه شخص ذو حياة، وبتقدير معلا، فقد ساعدت التشخيصية كمفهوم عام في التجربة السورية على إعادة صياغة وظيفة الفن، حيث تمّ تبني وجهات نظر فكرية ونظرية متنوعة بحسب انتماءات الفنانين، وبالوسائل الجديدة المتاحة لجعل التشخيص ينخرط في الواقع ويُساعد في التعرف على الحياة المعاصرة، وهذا ما يُقصد أحياناً في قراءة التشخيص من خلال الواقعية، أو الواقعية الجديدة، التشخيص هنا – كما تعنيه الباحثة – هو الشكل الإنساني حصراً، برغم أن المفهوم العام للتشخيص إنما يدل على أي شكل إنساني أو غير إنساني مكتمل التحقق على هيئة الواقع، أو ما يُقاربه، أو يُعبّر عنه ويُماثله.

إذاً مسار "التشخيصية" في المشهد التشكيلي السوري، لم يكن مساراً هيناً، ففي بيئة تنوء بحمولات ميثولوجية من أعراف وأديان لها تأويلاتها في "التحليل والتحريم" من هنا كان هذا المسار شاقاً، وأحياناً مروعاً، وفي فصل "الإشكال – إشكاليات التحريم" تذكر الباحثة، إنّ الساحة الفنية العربية والإسلامية، ومنها المحترف السوري، ماتزال تُعاني من حالات التجاذب والتنافر في الأفكار المتعلقة بجواز التصوير والتشخيص، ومن اللافت عند دراسة تاريخ التصوير تأرجح إشكالية التحريم والتحليل عند الأديان السماوية الثلاثة التي جاءت جميعها لتجد الناس يعبدون الآلهة المتعددة، ومن هنا وقعت التشريعات الدينية في مأزق يُعيق التمييز بين ما هو فن صُنع لأجل الجمال، وإن كانت غايته أحياناً مكملة للأبنية المصنوع لأجلها، وبين ما يحمل أساساً عند تشكيله مفهوماً مقدساً كصنم أو طوطم، أو غير ذلك.

في كتاب "التشخيصية" تُسلط الباحثة ضوءاً على تمظهرات المرأة في التشخيص السوري، حيث تظهر أهمية ومكانة المرأة منذ أقدم العصور في سورية من خلال التشخيصات النحتية واللوحات البارزة فقد سعى الفنانون لتجسيد الرموز والأفكار في الهيئة الإنسانية للمرأة المفعمة بالمشاعر كالذي تؤكده مختلف التماثيل المكتشفة في الأنحاء المتفرقة من سورية، لقد كانت المرأة مثالاً للتعبير عن العقائد والأساطير، وشخصت بجسدها ووجهها وحركتها الآلام والحزن والفرح والرغبة والنصر، كما عبّرت كرمز في البداية عن أهم المعاني الإنسانية: كالخصب والعطاء، وتحولت إلى آلهة للخير والحب في النحت والتصوير. وقد تحقق كلُّ ذلك على الصورة التي نراها – تضيف الباحثة – نتيجة التعلم الحضاري المشتمل على الخبرة الفنية والتنظيم المعرفي المتراكم لتقديم هذه التشخيصات الأنثوية، ليس المرئي المادي وحسب، بل ما هو أكثر من ذلك مما يطال القدرة على الوصول إلى المتخيل. وكانت الإشكالية الأكثر حضوراً في رصد المرأة في الإبداع بعامة والفنون بخاصة هي النظرة إليها، هل هي في المستوى السامي والإلهي الذي قدمت من خلاله في البداية، أم على المستوى الجسدي الآدمي الذي تحكمه النظرة الثقافية ومواقعية النظرة والمعايير المختلفة من زمان إلى زمان، ومن مكان إلى مكان آخر؟ وهل استطاع الفكر أن يُبقى النظرة متحضرة في الجميل السامي والرمزي والدلالات المنزهة؟ باعتبار الجسد أو تشخيصه في الفن مادة خارجية تعكس الحضور الإنساني والذات البشرية الواعية في تطورها التاريخي لقديم الأفكار؟

عند تتبع خُطى التشخيصية قديماً في سورية نرى أن عمق التجربة الفنية بعيد في المدى والزمن، ففي تل المريبط وتل أسود في سورية-الألف الثامن قبل الميلاد، عثر على تماثيل طينية وحجرية تمثل الآلهة الأم، امرأة عارية تحمي صدرها، وهي أقدم تمثال لربة الخصب عُرف حتى الآن.

حاولت الباحثة أن تقدّم لمحة عن مصادر التشخيصية في التشكيل السوري، ابتداء من العصر الحجري الحديث في الألف الثامن قبل الميلاد وصولاً للتشخيصية بمفهومها المعاصر، وذلك عبر قراءة الاتجاهات والموضوعات والدلالات التشخيصية وصولاً لمذاهب التشخيص خلال بدايات القرن العشرين إلى اليوم.

بقي أن نُشير إلى أن التشخيصات القديمة للمبدعين الأوائل مجهولي الهوية، شكّلت أهم ملمح جمالي في الفنون التشكيلية القديمة والمعاصرة، أي اعتمادها على التجسيد الإنساني، وبدأت حينها من رسومات بدائية على جدران الكهوف، وصولاً إلى فنون عالية في مجال النحت حتى أنّ كلّ حضارة من الحضارات القديمة أخذت أجزاء محددة من جماليات الجسد الإنساني، وأظهرتها بالكثير من الفنية العالية، كمسألة الأكتاف والعيون في الحضارة الفرعونية، والجسد الإنساني الممتلئ لاسيما عند الردفين للآلهة النسوية الأمومية في الحضارات القديمة في سورية وبلاد الرافدين، والجسد الإنساني المفتول العضلات للرياضيين، والاهتمام بالرؤوس للفلاسفة في الحضارة الإغريقية.

----

الكتاب: التشخيصية

الكاتب: يارا معلا

الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب