لم يعرف الأدب الشعبي يوماً حدوداً جغرافية أو ثقافية، أو أنه كان محلي النشأة، وعلى العكس من ذلك فقد قدم هذا الأدب الآسر أنموذجاً رائداً في العالمية سبق، بزمن طويل، بقية الفنون الأدبية. وأهم ما يمكن رصده عبر تاريخه الطويل هو ذلك التبدل الدائم والتكيف المستمر مع البيئات الجديدة التي كان يمضي إليها.

وترى د. ميساء زهير ناجي في كتابها "مجموعات قصصية خالدة" أن الحكايات الشعبية انتشرت بسهولة كبيرة في مختلف أنحاء العالم، وتجاوزت حدود الثقافات واللغات. فأهم ما يميز تلك الحكايات أن كل "رواية جديدة لها كانت تعيد شحن السرد السابق بأسلوب مغاير لتصبح مفعمة بالطاقة الثقافية".

ويضم الأدب الشعبي الحكايات الخرافية والخيالية والأساطير والأحاجي والنوادر والأغاني الشعبية، ويشمل معظم الأعمال الأدبية التي لم يتم تحديد أصحابها. وتتسم تلك الحكايات بميزة فريدة وهي "انهماك مبتكريها في إيجاد أدوات السخرية والشخصيات الاستثنائية والأساليب غير الاعتيادية لتغيير أنفسهم، جنباً إلى جنب مع تغيير البيئات التي كانوا ينتمون إليها وظروف الحياة التي كانوا يعيشونها كي تصبح في الحقيقة أبسط وأجمل وأقرب لذاتهم".

يعود ظهور الحكايات الخرافية إلى مئتين وخمسين سنة قبل الميلاد مع خرافات "البانشاتانترا" على ألسنة حكماء الهنود لتعليم السلوك القويم ومهارات السياسة الحصيفة. ومن ثم انتشرت في أمكنة عديدة وترجمت في القرن السادس الميلادي إلى الفارسية ثم العربية، وعبرت إلى إسبانيا والمغرب. وبعد ذلك نسبت يوماً إلى العبد اليوناني إيسوب من القرن السادس قبل الميلاد.

وما لبثت تلك الإيسوبيات أن توسعت مع الزمن وتم تعزيز عناصرها التعليمية المفيدة وتطويرها لتصبح أكثر شمولية لترسيم الأخلاق الحميدة. وازدهرت في القرن الحادي عشر، لكنها اتسعت على نحو أكبر في القرن الثاني عشر، إذ استوعبت نسخة الإيطالي يوهانس ديك ابوا من خرافات البانشاتانترا، ثم اندمجت الخرافات الإيسوبية مع نظيرتها الهندية والفارسية وثقافات أخرى عديدة.

ولا بد من الإشارة إلى أن أول الحكايات الخيالية الموثقة ظهرت في مصر القديمة نحو 1300 قبل الميلاد، وربما كان هناك ما سبقها من قصص غير موثقة. وهناك مجموعات سبقت "ألف ليلة وليلة" التي ظهرت 150 م، ومنها تم توثيقها بعنوان "خمسة وعشرون حكاية من فنيالا" مكتوبة بالسنسكريتية، وهي مجموعة هندية من الأساطير والحكايات الخيالية، وقد ترجمت إلى الإنكليزية. وفي الغرب تظهر ملامح تلك الحكايات في مجموعة "كانتر بري" لجيوي تشوسر بالإنكليزية العامية "1387- 1400" . وتلتها مجموعة من الأعمال لكنها كمجموعات "موثقة ومتألقة" ظهرت على يد الكاتب الفلورنسي السير جيوفاني فيورنتينو، وضمت خمسين حكاية قصيرة تحت عنوان "البساطة".

وفي السياق نفسه تتجلى أهمية عمل الكاتب الإنكليزي جون نيوبري الملقب "أبو أدب الأطفال" فقد أدخل حكاية ذات الرداء الأحمر وحكاية سندريلا في كتاب الجيب الصغير عام 1743 وهو الكتاب الأول ضمن سلسلة كتب الأطفال التعليمية والترفيهية الناجحة التي أصدرها نيوبري كأسلوب مميز في صناعة النشر آنذاك.

والمقارنة بين أغراض الحكايات الخيالية الحديثة منها أو القديمة، يؤكد أنها لا تختلف كثيراً عن بعضها "فهي ما زالت بشكل أساسي تعليمية وترفيهية حتى وإن أخذت اليوم أشكالاً أكثر جاذبية من الروايات الشفوية والإصدارات الورقية كما الرسوم المتحركة والكتب الصوتية وكتب الرسوم الهزلية والبرامج التفاعلية".

واللافت أن الحكايات الخيالية المرئية تحاول، وإن أعادت صياغة حكايات قديمة، استبعاد مفاهيم وظواهر لم تعد مقبولة اجتماعياً، كما كانت سابقاً، كالسلطة الأبوية المطلقة، والتمييز بين الأفراد على أساس الجنس أو العرق. وبدلاً من ذلك تركز على تمكين النساء المضطهدات وتصحيح الخلل القائم بين الذكور والإناث في مختلف المجالات. كما تؤكد على مفهوم التنوع بمستوياته الثقافية والعرقية والبيئية، وعليه تعكس الحكايات الخيالية الحديثة تمثيلات ثقافية واجتماعية وعرقية متباينة جداً.

وتكشف الباحثة عن منطقة مشتركة بين الصغار والكبار في تلك الحكايات "تخفي حكايات الأطفال جزئياً إحباطات البالغين الذين يتوقون، حتى يومنا هذا، إلى عالم أفضل وأكثر عدالة حيث يمكن للناس أن يعيشوا في نهاية المطاف بسعادة دائمة". وبقاء الحكايات الخيالية صامدة أمام اختبار الزمن، هو مؤشر رئيسي على قوتها الأخلاقية والتعليمية والترفيهية لدى الأطفال والكبار على حد سواء. وتؤكد دراسة البرفسور جلاودين الشاملة لمرحلة ما بعد الحداثة أن الحكايات الخرافية "تمنح الأطفال والبالغين معاً فرصة عظيمة للإبداع وتحقيق الذات حين تسمح لهم سرد قصص حياتهم بدلاً من تبني القصص التي يتم سردها لهم".

وتتناول في عدة فصول عدداً من تلك الحكايات مثل "ألف ليلة وليلة" التي يقول عنها أندريه جيد "أمهات الكتب العالمية ثلاث: الكتاب المقدس، أشعار هوميروس في الإلياذة والأوديسة، وكتاب ألف ليلة وليلة". كما يرى العديد من الأدباء أنها "كانت الأكثر قدرة على ملاءمة جميع التغيرات التي طرأت عبر العصور والحضارات". وأول ترجمة أوروبية لها كانت في القرن السادس عشر لأنطون جالا، وبقيت أساساً للتراجم اللاحقة حتى القرن التاسع عشر. ويرى الكاتب البريطاني روبرت إبروين أنه "قد يكون من الأسهل علينا أن نذكر أسماء الكتاب الذين لم يتأثروا بحكايات ألف ليلة وليلة عن أولئك الذين تأثروا بها".

وتقوم برحلات أخرى غنية توثيقياً ومعرفياً لحكايات "الديكاميرون القصصية، حكايات إيسوب، مجموعة البانشاتانترا، مجموعة البنتاميرونن ومجموعة لافونتين من الحكايات الخرافية".

----

الكتاب: مجموعات قصصية خالدة

الكاتب: د. ميساء زهير ناجي

الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب