فرضت تطورات العلم الكلاسيكي والمعاصر على الفلسفة أفكاراً ورؤى جديدة، وكان الملهم الأساسي لها النظريات العلمية مادة ومنهجاً. وفي القرن العشرين كانت تقتضي دراسة أي فلسفة لا سيما التحليلية تحديد مدى تأثيرها وتأثرها بالعلم المعاصر، وتحديد مدى تطلع الفلاسفة إلى صياغة الفلسفة العلمية التي تحاكي العلم. أما تأثير الفلسفة في العلم فيتضح من خلال نهوض الفلسفة وإزاحتها لكثير من العقبات التي واجهته فيما مضى، وقد ترتب على ذلك ظهور مناقشات فلسفية طويلة حول طبيعة المنهج العلمي وخطواته، ومكانة كل من الفرضية والتجربة والرياضيات في هذا المنهج.

وفيما يتعلق بالحركة المنطقية الحديثة فقد تأخر ظهورها عن الثورة العلمية الكلاسيكية مدة ثلاثة قرون تقريباً، فقد خرج المنطق مع نهاية القرن التاسع عشر ليشارك في إقامة العلوم على أسس جديدة، ويساعد الفلسفة في حل كثير من مشكلاتها.

وقد بدأ المنطق الحديث مع نهاية القرن التاسع عشر عاجزاً عن مواكبة التطورات العلمية العاصفة التي فرضتها عليه الثورة العلمية الجديدة، مما كشف الكثير من العيوب والنواقص في بنية المنطق ذاته، ما دفع بالمناطقة من جهة والرياضيين من جهة أخرى إلى البحث عن أسس جديدة للمنطق، والتفكير بطريقة مختلفة عن طريقة التفكير التي يقوم عليها المنطق التقليدي. ومع بداية القرن العشرين ظهر المنطق الحديث الذي دعي بالمنطق الرياضي أو الرمزي، وفيه شرع المناطقة والرياضيون والفلاسفة بتحليل التصورات على أسس جديدة، كما قدموا منطقاً جديداً للعلاقات، وبدأت العلاقة بين المنطق والرياضيات تتخذ أبعاداً جديدة تجلت في استثمار كثير من الأفكار الرياضية في إقامة النظريات المنطقية، غير أن هذه العلاقة بين المنطق والرياضيات لم تمنعهم من ربط المنطق بالخبرة بقصد فصله عن الميتافيزيقا.

وبالنسبة إلى رودولف كارناب الفيلسوف والمنطقي الألماني، فقد كانت جهوده الفلسفية عبارة عن تطبيق للمنطق على الفلسفة، غير أن هذا التطبيق انتهى إلى هدم الفلسفة وتربع المنطق على عرشها، فمن مفهومه للمنطق بوصفه منهج للتفكير الفلسفي فهو مبني على التحليل المنطقي لعبارات الفلسفة ومفاهيم العلم التجريبي ونظرياته. والمنطق عنده يحلل جميع أنواع المعرفة، وبذلك لا يقتصر على المنطق الصوري، بل يمتد ليتناول نظرية المعرفة، والمعرفة عنده تتحول إلى أنساق منطقية سواء كانت معرفة صورية أم علمية تجريبية، ومن خلال هذه الأنساق يتم تحديد خواص ومقومات معارفنا.

والمنطق عند كارناب يقسم على قسمين، الأول "لغة الموضوع" وهي اللغة التي يستخدمها الناس في حياتهم والعلماء في بحوثهم، والقسم الثاني هو "التركيب المنطقي للغة". فمن وجهة نظر كارناب، فإن العمل الأساسي للفلسفة هو التحليل المنطقي للغة، الذي يهدف إلى إيجاد التركيب المنطقي للغة، وهذا التركيب المنطقي يتألف من نظام من المفاهيم، ونظام من جمل اللغة يتم بمساعدتها إقامة منطق العلم الذي سيحل محل الفلسفة، فالتركيب المنطقي للغة هو النظرية الصورية للأشكال التركيبية للغة.

إن اللغة التي تناولها كارناب والمناطقة المعاصرون عموماً في أبحاثهم هي اللغة الرمزية التي تتميز بالدقة والتجريد والقدرة الاشتقاقية عن طريق القواعد المنطقية، حيث تبنى هذه اللغة على شكل أنساق منطقية تبدأ بقواعد التكوين والجمل الأولية أو البديهيات ثم المصادرات والتعريفات وقواعد التحويل وصولاً إلى البرهنة على النظريات المنطقية.

ولقد اختار كارناب اللغة الرمزية لبناء نسقه الاستنباطي أو تركيبه المنطقي، غير أن ذلك لا يعني رفضه للوظائف الأخرى للغة، لكن دراسة اللغة من جهة تلك الوظائف لا يتم عن طريق التركيب المنطقي، يضاف إلى ذلك أن تطبيق التحليل المنطقي على جمل اللغة الرمزية لا يمنع من تطبيقه أيضاً على لغات الكلمة.

ولم يقف التركيب المنطقي لدى كارناب عند حدود المعرفة المنطقية والرياضية وأسسها، بل هدف إلى الوصول إلى معرفة عن العالم خالية من العناصر الميتافيزيقية ومبنية على أسس منطقية. ولتحقيق ذلك انطلق في تناوله للعالم من موقفين، أولهما "الموقف العلمي" الذي يمكن تحديده في تمثل النسق التركيبي للنظريات العلمية المعاصرة، أما الموقف الثاني فهو "الموقف المنطقي" الذي تجلى في تقديم كارناب لنسقه الفلسفي على شكل نسسق منطقي، واعتماده على نظريات وعمليات منطقية لم يكن للنسق أن يقوم بدونها.

إن تناول كارناب للعالم، تم من خلال تحليل منطقي يصل إلى المكونات الأولية ويحدد علاقة هذه المكونات مع بعضها، ثم تعريف المفاهيم والأفكار الأكثر تركيباً بالاستناد إلى تلك المكونات.

----

الكتاب: النظرية المنطقية عند كارناب

الكاتب: د. رشيد الحاج صالح

الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب