"كان الرجلُ يجلسُ دائماً في المكان عينه، على المقعد الموجود عند طرف المشرب، عندما لا يكون مشغولاً بالطبع، لكن بشكلٍ عام، لم يكن أحدٌ يجلسُ هناك، فنادراً ما كان البارُ مُزدحماً". هكذا يبدأ الكاتب الياباني هاروكي موراكامي روايته (بار كينو).

حتى الصفحة الثالثة والعشرين لن نعرف شيئاً عن هذا الرجل الغامض حتى اسمه سوى ما يُخبرنا الرواي عن صفاته وحركاته الخارجية إلى درجة توحي للقارئ أنه هو من سيكون الشخصية الرئيسة التي تقوم بأحداث هذه الرواية. غير أنّ كلُّ ما تقدم لا يعدو في هذه الرواية أكثر من خلفية لما سيجري لـ (كينو)، الذي ومنذ الصفحة الثالثة والعشرين، سيكون هو في قلب كل الأحداث، يبدأ ذلك من قراره إنشاء هذا (البار)، الذي كانت تملكه خالته كـ(صالون شاي) بعد صدمة عاطفية سنحتار نحن قراء الرواية في مستوى شدّتها ووقعها على نفسه، وذلك بعد أن فاجأ زوجته تخونه في سريره مع الصديق الأقرب إليه في الشركة التي يعمل بها كمندوب مبيعات للأحذية الرياضية، فيهيمُ على وجهه، ويُنشئ هذا البار في آخر الزقاق بمدينة بعيدة بجوار شجرة صفصاف سيكون لها وقعها هي الأخرى تماماً كالرجل الغامض الذي اختار الحيز الأضيق في البار، وهو الساعي ليبني أمراً وحيداً، وهو مكان يرسخُ فيه بقوة حيث لا يتأرجحُ فيه قلبه، وقد سمح للوحدة والعزلة والصمت باختراقه حتى النهاية.

في هذه الرواية حيث يصف مُترجم الرواية في مقدمته لها؛ تبدو الشخصيّات، وكأنها تتطور على خطٍّ مائي، يبدو فيه الحلم والواقع مترابطين، إذ وفقاً للقصة هذه، يصبح الجو أكثر شبهاً بالحلم، وهو انطباع تُعززه دقة المؤلف، حتى في الوصف البسيط. فـ (بار كينو) هو المكان الذي يرتادهُ زبائن هادئون، منغمسون في عزلتهم.

في هذا البار، سيلجأ (كينو) إلى الصمت والمراقبة لكلِّ المشاهد من حوله، وهي مشاهد وإن كانت خارج الجسد، غير أنها ستدخل إلى صميمه الجواني لأجل توازنٍ ما لروحه التي أصابها الذهول. وهي في كلِّ الأحوال ليست مشاهد كثيرة، غير أنّ أي زحزحة في "اعتياديتها" كان يُشكّل له خللاً لا يُستهان به في روحه، أولهم الرجل الطويل الغامض الذي لا يملُّ يطلب الطلبات ذاتها، وربما يقرأ في ذات الكتاب على الطاولة عينها، وكذلك القطة التي اختارت مكاناً ما في هذا البار ليكون لها هي الأخرى حيزها في مشهد (كينو) اليومي، وحتى المرأة المُعنفة التي تتعرّض لسادية مروّعة من قبل صديقها، المرأة التي تقترح عليه علاقة عابرة عند غياب صديقها، والتي كان كلما فتح لها الباب امتلأ الجو برائحة المطر، واندفع الليلُ إلى الداخل مستسلماً لوميض الرغبة في عينيها الذي كان مثل فانوسٍ خافت في نهاية نفقٍ مُظلم، حيث عند هذه النقطة كان يشعرُ بجفافٍ في حلقه حتى لو شرب كلَّ ماء العالم.

في هذا البار – الحانة؛ ثمة مناخات تتكامل رغم الكثير من التنافر – ربما – فيما بينها، غير أنّ ثمة من وحدة "الوجود" تتناغم وتعطي الكثير من الإشارات والطاقات من المشاعر، حيث القطة والرجل الغامض، والمرأة المُعنفة وشجرة الصفصاف، وظهور أفاعي الحديقة مؤخراً بشكلٍ مُفاجئ، إضافة إلى قطرات المطر.. كلُّ ذلك يوشحه هاروكي بالموسيقا القديمة لاسيما موسيقا الجاز التي تأتي كخلفية، أو ربما خشبة مسرح تجمعُ كلَّ تلك الأحداث على إيقاعها لاكتمال المشهد في تمام بانوراميته.

هذه المشاهد التي اعتاد (كينو) على رؤيتها اليومية، ستتخلخل مع غياب القطة على حين غرةٍ، ولم تعد كعادتها، والذي ترافق بظهور مُحيّر لأفاعٍ غير معتاد على وجودها في الحديقة، مع تغير ما في سلوك شجرة الصفصاف في آخر الزقاق التي تُجاور المقهى.

غير أن (كينو) الذي اعتاد تلك المشاهد، والتي كانت تنزل إلى قلبه ما يُشبه الرسوخ أو بمثابة السكينة على روحه التي أصابها الذهول، كان هو الآخر يُشكّلُ مشهداً للرجل الطويل الغامض الذي اختار الحيز الضيق من البار، والذي سنتعرف على اسمه لأول مرة بعد حصول مشاجرة بين رجلين و(كينو) في البار، مشاجرة لم يحسب لها (كينو) أي حساب، ولم يكن في وضعٍ مهيأ لها، والذي كان على الرجل الطويل الغامض، أن يحمل عنه هذه المهمة ويُخلصه منها بطريقته الخاصة.

الرجل الذي سنعرف اسمه، بعد أن أمسى بعد أربعة أشهر من ارتياده البار، يُقدّم نفسه كثيراً مع شروحات طويلة لما يعني اسمه: (كاميتا)، والذي يعني مفصلاً كما يُحب أن يشرحه: "كامي" وتعني إله، و"تا" وتعني حقل الأرز، والذي سنكتشف إنه مُكلف من قبل خالته لحمايته والسهر عليه حتى لا يُصيبه مكروه، وهو من سيقترح عليه رحلة طويلة إلى مكانٍ قصي، وفي أي اتجاه يُريد، وهو ما سيقوم به فعلاً وبما يُشببه (اللاإرداية). رحلة بعيدة عن كل تلك المناخات المفعمة السابقة، والتي كانت – على ما يبدو – قد شغلته لأن يعيش صدمته كما يليق بها، وليتركه بعد ذلك يُقرر كيف يجد نفسه التي تاه عنها كثيراً مع خاتمة مفتوحة تماماً كمشهد مروّعٍ أخير حيث كينو في مواجهة نفسه وحيداً.

تلك الرحلة وإن كان لها حيزها الجغرافي إلى مدن بعيدة، والحجز في فنادق متعددة، غير أنها لأوّل مرّة تضع (كينو) أمام ذاته، رحلة جغرافية لكن لها مُعادلها في السفر الداخلي والجواني لاكتشاف نفسه التي كانت أشبه بلغزٍ حائر، حتى إنه لم يعد يُميز طبيعة مشاعره من حزن وحب وانكسار وغيرها. تلك الرحلة التي وفرت له الكثير من الاكتشافات النفسية بعد نصيحة (كاميتا) المذهلة: "لا تمسك في مكانٍ واحد لفترة طويلة".

وكعادة أغلب اليابانيين في كتابة الرواية، التي غالباً هي قصة طويلة لا تتجاوز المئة صفحة، والتي يُخبرنا إسكندر حبش – مقدم ومُترجم الرواية – بأنّ (بار كينو) لـ (هاروكي موراكامي)، هي واحدة من القصص السبع التي تضمنها كتاب (رجال بدون نساء)، حيث جاء صدور (بار كينو) كقصة طويلة – نوفيلا للمرة الأولى في مجلة (النيو يوركر) عدد شباط من سنة 2015.

----

الكتاب: بار كينو

الكاتب: هاروكي موراكامي

ترجمة: إسكندر حبش

الناشر: دار دلمون الجديدة