ابن عربي من كبار المفكرين الأكثر إثارة للانتباه، والأكثر عرضة للنقاش في الدوائر الفلسفية والدينية في الحضارة الإسلامية، فلقد طبع التصوف بفكره الذي ينحو به نحو التأمل وليس الاقتصار على التجربة الروحية، غير أن هذا التفكير التأملي يطرح مشكلة أمام عدد من الباحثين فيما إذا كان حقاً فلسفة تتجه إلى بناء نسق أم مجرد جماع لعدد من التصورات والعلوم والمفاهيم النابعة من تجربة إلهامية تمزق النظام ولا تقبل الدخول في توجه نظري معلوم المعالم والمنطلقات والفرضيات والتوجهات العامة.

غير أن البعض يعتبر فكر ابن عربي فلسفياً يقوم على محور مركزي تشع منه جميع أفكاره، وهذا المحور هو "وحدة الوجود" التي يعتبرها عقيدة أكبرية أي خلاصة خاصة الخاصة، في حين أن بعضهم الآخر قال بوجود نظام ثاوٍ في فكره من دون إرجاعه إلى وحدة الوجود، والبعض الآخر نظر إلى هذه الوحدة كأساس منهجي يقوم عليه النسق الفيلوصوفي الأكبري.

وابن عربي لم يكن مجرد واحد من كبار الصوفية في الإسلام، وإنما من كبار الصوفية في جميع الأزمان، ومن المفكرين الذين كانت كتاباتهم تعبر بحق عن تجاربهم الذاتية.

الظاهر والباطن

لم تكن هرمنيوطيقا الشيخ الأكبر تلغي الظاهر على النحو الذي يقوم به الباطنيون الذين يقتلون حرفية النص، فليس القرآن الكريم عنده باطنياً محضاً ولا ظاهرياً غفلاً، إنما هو وجود نقرأه معرفياً وأنطولوجياً، نظراً للتماثل القائم بينه وبين الوجود، ونظراً لكونهما نابعين معاً من مصدر واحد وهو النفس الإلهي الذي منه خرجت الأعيان والحروف التي منها تشكلت الكلمات الإلهية إلى الحد الذي يمكن أن نقول فيه إن القرآن وجود مكتو بالكلمات، والوجود قرآن مكتوب بالأشياء والممكنات. وهذا يعني أن ابن عربي ينطلق من الكل إلى التفاصيل، وينظر إلى القرآن من حيث هو نظام باطني أو تآلف بين شكل ظاهري وآخر باطني، فالظاهر يعكس الباطن بإخفائه، والباطن يؤسس الظاهر بإحضاره، وإن هذا الكل هو الكلام الإلهي في مقابل اللسان البشري المجتزئ والمنفصل.

وفي هرمنيوطيقا ابن عربي نجد سيادة الحروف داخل الخطاب الإلهي، فالحق سبحانه وضع الكلام مناسباً لما قصَدَ منه، بالتالي فإن كل تأويل يقوم باستبدال كلمة بأخرى هو تحريف، أي أن صرف القول عن ظاهره تحريف. وهرمنيوطيقا القراءة الأكبرية تفيد أن قراءة القرآن هي قراءة يقوم بها مختصر الوجود الذي هو الإنسان، للوجود الذي هو نفسه كتاب مسطور، غير أن هذا المختصر هو فرقان، أي برزخ فاصل بين الحق والخلق، هذا يعني أننا بالفرقان نقرأ القرآن الذي هو جمع، وفي الوقت ذاته فرقان بين الحق والباطل، بين الحق والخلق فاصل أنطولوجي، وبين الحق والباطل تمييز معرفي، إذ ليس في الوجود باطل، إنما الباطل يأتي من أفعال الخلق.

الهرمنيوطيقا الأكبرية

ولهرمنيوطيقا ابن عربي قواعد، كضرورة التمييز في اللسان العربي بين اللسان العربي الذي هو لسان رسول الله وبين لسان عربي أعرابي (وفي هذه القاعدة يحصل السمع عن رسول الله مباشرة باعتباره السامع عن الروح الأمين)، كذلك ضرورة التمييز بين حقيقة الكلام الإلهي ووضعه في لغة أمة محددة (والقاعدة هذه تبين أن الحقيقة التي تسعى إليها هرمنيوطيقا الشيخ الأكبر تحملها اللغة دون أن تكون هي لغوية، وهذا ما يعطي اللغة عنده بعدها الرمزي)، ومن القواعد أيضاً شمولية الخطاب وزمانية الفهم (ويترتب على هذه القاعدة مبدأ هرمنيوطيقي هام وهو كل متأول لآية لا يحصل إلا على جهة منها، وليس على ما تحمله من حقيقة مطلقة، مما يفتح المجال أمام تعدد التأويلات، غير أن كل تأويل هو صحيح عند صاحبه فقط، وليس من حقنا تخطئته، لكن من حقنا ألا نأخذ به).

فينومينولوجيا العقل والوجود

بالنسبة إلى ابن عربي فإن الروح وإن كانت هي مبدأ حياة الأجسام، فإنها أيضاً مبدأ المعرفة والإدراك، وبدونها لا يكون لقوى الإدراك وجود، وإذا كان الشيخ الأكبر يتحدث عن قوى الإدراك مثله في ذلك مثل الفلاسفة، فإنه غرضه من ذلك مخالف لغرضهم، فإذا كان الفلاسفة يسعون إلى إعطاء العقل النظري الدور الرئيس في نظام المعرفة، فإن ابن عربي يمنح هذا الدور للحس والخيال، وعلى الرغم من أنه يعطي الخيال معاني متعددة، فإن عمله يكشف عن أن هذا التعدد ظاهر فقط، وأنه يقوم بوظيفتين استرجاعية وإبداعية، من حيث هو قوة إنسانية.

ويسعى ابن عربي إلى الربط بين الخيال الذي هو أعظم قوة خلقها الله وبين الكشف الصوفي، إنها قوة تشكل استمراراً لعملية الخلق الإلهي، يضاف إلى هذا أمر هام هو أن ابن عربي يعتبر القوى الحسية أهم من القوى الروحانية، حيث إن هذه الأخيرة لا تمارس وظيفتها إلا فيما تعطيه القوى الأولى، بحيث تصير من موادها.

وبالنسبة إلى شيخ العارفين فإن العالم لا يعطى لنا في الأشياء وإنما في الإدراك، أي في معرفة الآفاق، والمعرفة تقتضي عارفاً، والعارف لا يكون عارفاً إلا إذا عرف نفسه، أي أن يتعرف إلى العالم في نفسه، وأن يتعرف إلى نفسه في العالم، هكذا تكون العلاقة بين الإنسان والعالم علاقة دخول العالم في وجود أعم منه وهو الوجود الإنساني.

والعالم يظهر في الإنسان باعتباره حركة تحيل إلى الإنسان نفسه من حيث هو ظاهرة، والإنسان هو موجود يحيل إلى غيره ويحيل إلى نفسه في الوقت ذاته، إنه في فكر ابن عربي مدعو إلى سماع نداء الحق الذي يأمره بأن يعرفه ويراه في آياته الدالة على كنزه الخفي.

والإنسان يوجد كي يعرف العالم، وبهذه المعرفة يكون للعالم كماله، فالعالم بدون المعرفة ناقص، حيث يقول ابن عربي: "فاعلم أن الله تعالى ما خلق العالم لحاجة كانت له إليه، وإنما خلقه دليلاً على معرفته ليكمل بذلك ما نقص من مرتبة الوجود".

والإنسان ليس مثل أي موجود، وإنما يتميز عن سائر الموجودات بقدرته على الحضور في مختلف مراتب الوجود المضاف، ومن حيث أن له القدرة على فهم العالم مادام العالم قائماً فيه بجمعيته، هذه أطروحة تبين أن العالم ليس وعاء يضم الإنسان، إنما العالم نفسه ليس ممكناً إلا بوجود الإنسان، هذا هو البعد الأنطولوجي للعالم من حيث هو عنصر ضمن الوجود الإنساني.

----

الكتاب: إشكالية العقل والوجود في فكر ابن عربي

الكاتب: د. أحمد الصادقي

الناشر: دار المدار الإسلامي