"ولكن ما هي قصتي؟ قصة بسيطة تافهة. قصة فتاة سهرت مع شاب، ثم قبّلها في آخر الطريق، هل هذه التفاصيل تصنع قصة.؟"، ذلك ما ناجت به "ماريّا" بطلة رواية "شك البنت - خرز الأيام" للأديبة السورية أنيسة عبود، في طريقها التراجيدي الطويل الذي استهلك من حياتها كلَّ سنواتها الجامعية في مطاردة شاب التبس عليه حبّها، أو في قصة حب ملتبسة بين شابين جامعيين، حيث الفتاة العاشقة "حرنت" عند نوبة عشقٍ عاصفة لرجلٍ يبدو أخيراً لعشقها التراجيدي.‏

لكن هل هذه الفكرة تصنعُ رواية؟ كما تساءلت ماريّا نفسها التي أوقفت سنين كثيرة تتصيّد الفتى الذي هجرها؟ ذلك ما كان النقلة الجديدة في مسار تجرية روائية سورية كان لها مكانها اللائق في المشهد الثقافي السوري، عملت عليها أنيسة عبود كثيراً، لتكون لها صياغتها السردية الخاصة التي تماهت مع كلِّ جميلٍ من هذه الأرض السورية العتيقة لاسيما في انجدالها مع بيئةٍ عشقت عينيها السوريتين حدّ الشغف.‏

لكن "بساطة" القصة، توحي لأول وهلة، وكأنّ الكاتبة أنيسة عبود، قد أخذت صيغة مسار سردٍ مختلف لما عوّت المتلقي والمتابع لأعمالها، التي غالباً ما كانت تنوء بهموم وقضايا كبيرة، غير أنها في هذه الرواية تأخذ من مفصلٍ صغير، أو يوميات تحدث كثيراً لتبني عليها رواية كاملة، وهذا ما انتشر كثيراً في مختلف أنواع الإبداع وليس في الرواية وحسب، أي الإبداع الذي يُلمس بالأصابع.‏

أقول: إن ذلك ما يوحي به للوهلة الأولى؛ ذلك أنّ أنيسة عبود بقيت وفيّةً لكلِّ القضايا والهموم الإنسانية التي عودت متابعها على طرحها في كل مرة، وليس السرد الجديد إلا تنويعاً وصياغة جديدة لما درجت عليه من شواغل، لكنها هنا اختارت هذا "العادي" الذي نمرُّ بجواره دون أن ننتبه لمواجعه، أو قد نظن أنها فترة الشباب الطائش الذي لا يبقى منه غير نتفٍ في ذاكرة، قدرها أن تمتلئ كل لحظة بالكثير الموجع.‏

في هذه الصياغة الإبداعية لأنيسة عبود، أميلُ لاعتبارها محاولة لتفسير الكل من خلال الجزء، وهذا ليس جديداً في تجربة غنية كتجربة عبود، تروي فيها رحلة شغف تستهدف التوصل الى تفسير كلّي لواقعٍ اجتماعي وتاريخي وسياسي وحتى ديني في هذا الفضاء الذي حددته الكاتبة بما يليق بأوجاعه وجمالياته سواء مكانياً أو زمانياً.‏

تستمّدُ رواية "شك البنت - خرز الأيام" أهميتها من أبعاد عدة جديرة بالاهتمام حقاً، وربما في مقدمتها إسقاط الكاتبة أفكارها كافة، على حالات العشق الذي تلبسته مع مجموعة من النساء. وإن كان على عاتق "ماريّا" وكاهلها يقعُ عبء السرد والروي لكلّ الحكايا من منطوقها الشخصي، وإذا كانت الرواية قد أخذت مسرى سردياً على إيقاعٍ متصاعد، غير أنها كسرت ذلك الإيقاع لتساوق مع ذلك التصاعد أزمنة كثيرة لنساءٍ عاشقات من أزمنة مختلفة في ذلك الفضاء الذي يمتدُّ من أوغاريت وحتى عمريت، من نوع ذلك العشق "المنودرامي" الذي يقارب المرضي أحياناً، هي قصص نساء مفعماتٍ بالحب. ولأن العواطف وجدت لتكون مشتركة، لكنها هنا بقيت معطّلة بالتواصل، الأمر الذي يجعل الحبَّ خائباً في كلِّ مرّةٍ، تنقطع مجساته خلال مدّها للطرف الآخر، فتنكفئ إلى الداخل لتشظيه نتفاً من العواطف المتناثرة، والعواطف التي ترتدُّ لتصير طلقةً من سلاحٍ فاسد، هي العلاقات الإنسانية التي تتكسر دائماً عند أجمل انعطافاتها. ولتبيان أسباب هذه الحالة الدهرية، تروي أنيسة عبود ذلك بأكثر من "لعبةٍ" أو غوايةٍ إبداعية، تجعلُ للرواية مذاقها الجمالي الخاص لاسيما بتلك الاستعارات التي تجعل الكلمات أكثر عذوبةً حين تتلفظ بها. كما يُعطي الإيحاء الذي اشتغلت عليه طويلاً في الرواية أكثر من تأويلٍ وأكثر من قراءة، لتقدم عملاً درامياً يُعطي اتساعاً أكثر للوجود، ولسنينٍ حافلة بالمشاعر.‏

من العنوان تبدأ الغواية السردية في رواية "شك البنت - خرز الأيام" فشك البنت، الذي استثمرته الكاتبة بأكثر من اتجاه، هو يُشير أولاً لاسم نوعٍ من أجمل أنواع التبغ الذي يُزرعه الفلاحون في حواكير الساحل السوري، ومن بيعه كان يوفر هؤلاء المقهورون دائماً ما يسدُّ رمقهم من الحب ودوام الصحة وكل ما يجعل المرء باقياً على وجه الحياة. غير أن عبود توظفه لأكثر من مهمة إبداعية "شك البنت" وما يوحي بمنغصات المرأة ومواجعها. ويأتي العنوان الفرعي ليزيد في المخاتلة، حيث تصير الأيام كأدراج ذاكرة، أو سفوح ذاكرة علينا أن نهز عشبها لنسمع حفيفه، طوراً كموّالٍ حزين، وطوراً آخر كقصيدة عشق.‏

من غواية أنيسة عبود في "شك البنت" ذلك الشغل على الإيهام الجميل بالزمان والمكان، دون أن تُفصح عنه بشكلٍ مُباشر ليصير ذلك الزمان والمكان شخصيتين لا يقلان أهميةً عن تلك الشخصيات التي تخلقها الروائية من لحم ودم.‏

فالمكان هنا وكذلك الزمان موغلان في القدامة والأزلية، وإن كان من جهة أخرى هما "الآن وهنا"، فالضيعة "تل القرّام" لا تنتهي عند ضيعةٍ مشلوحة بين حقول التبغ والزيتون، والمخدرة برائحة "شك البنت" العطرية اللذيذة، وإنما هو فضاء كما أوردت الكاتبة على لسان بطلتها يمتدّ من "أوغاريت وحتى عمريت" وما لدلالة الاسم من حالةٍ دهرية.‏

وحتى غرفة الفتاة في المدينة الجامعية لجامعة "الجبل العالي" في الطابق الرابع من البناء المطل على "لادويسا" الاسم الفينيقي القديم للاذقية، وكأن الكاتبة هنا، تقول لنا إنني أروي قصصاً مستمرة من أزمنة غابرة، وهنا تكسب حسنتين، أو ميزتين جماليتين، الأولى استمرار الوجع للمرأة العاشقة من ألف دهر، وأخرى تسليط الضوء على مكانٍ موغل في حميميته، لا يملّ يخلق العاشقات على مرِّ الأيام، وهنّ الموغلات في الوجد والقهر.‏

الغواية الأخرى التي تأخذ بالكاتبة، وهي غواية الذاكرة التي لا تملُّ هي الأخرى عن رواية الأحلام التي كان لها ثمنها، وفي الرحلة الطويلة التي تنتظرنا، لا نتخلى عن روح الطفولة أبداً، فهي أساس وجودنا، وهي التي تكوّن ذوقنا ورائحة أيامنا، وفي نبش الكاتبة لأدراج الذاكرة، وكأنها تُحاول أن تُثبّت عالماً يكاد يندثر "عندما تعلقُ وجوه في الذاكرة، نُحافظ على حضورها كما هي دون أن تكبر"، هنا تكاد تصير الذاكرة خلال الروي وكأنها خشبة مسرح التي على شخصياتها المشروخة أن تؤدي أدوارها عليها، وهي تنضح ألماً.‏

ولعلّ من أجمل غوايات السرد عند أنيسة عبود، في تشكيلها لتلك المشاهد البصرية لخلفية الأحداث، تعطيها دفقاً آخر من الشغف والتوق، وعبود هنا مُغرمة بهذا الوصف الذي يأخذك من خصرك لسحر المكان، تلك المشاهد التي تُشكلها بعين القلب، ومن هنا تكون مفعمةً بالمشاعر الدافقة والأحاسيس العالية. "جبل هذا السفح، الذي تسندُ قريتي ظهرها عليه، وتلك الهضاب الساحرة كم مشاها بشرٌ، وكم مرّ بها وحوشٌ وطغاة؟ في هذه السفوح مرّ أبطال رواية (الوباء) لهاني الراهب".‏

----

الكتاب: شك البنت - خرز الأيام

الكاتب: أنيسة عبود

الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب