"من أجل ليلة حبّ - 1883، السّيدة نيجون – 1884، ومحار السيّد شابر 1884"؛ ثلاث روايات صدرت بالعربية في كتابٍ واحد، وهي للروائي الفرنسي إميل زولا (1840 – 1902).

ورغم أن زولا عاصر كتّاب الملاحم في كتابة الرواية، أي تلك الروايات التي تسرد سيرة أجيال، وتصدر على شكل أجزاء. وحتى زولا نفسه قد فعلها في روايته الشهيرة (آل روغون – ماكار)، التي جاءت على شكل سلسلة في عشرين جزءاً يرسم فيها – على ما يذكر مُترجم الرواية في مقدمته – لوحة مُتكاملة عن المجتمع الفرنسي خلال فترة الإمبراطورية الثانية. غير أن زولا كتب أيضاً الرواية القصيرة، أو ما عُرف بـ النوفيلا، والتي هي السمة العامة لما يُقدّم من الكثير من روايات اليوم. وليس أكثر مثالاً جليّاً عليها، هذه الروايات التي بين أيدينا اليوم، والتي جمعت تحت عنوان النوفيلا الأخيرة "محار السيّد شابر"، والتي تأخذ منحى "رواية الواقعية" التي قد تكون أو شكلت إرهاصات (الواقعية السحرية) فيما بعد، طبعاً من نافل القول إنّ المُصطلح الأخير جاء بعد زمن زولا بسنين تتعدى القرن ليسم النتاج الروائي في أمريكا اللاتينية على وجه التحديد، وربما مرجعية هذه الواقعية في كلا الزمنين؛ قد تكون المرجعية الصحفية لكتّابها، فمعظم الروائيين في أمريكا اللاتينية، هم كتّاب صحفيين منذ بداية كتابتهم، وهو ما دعى إليه زولا منذ أكثر من مئة من السنين، عندما طالب الكتّاب العمل دائماً بالصحافة، لآنها برأيه تُعلمهم فن الكتابة.

وفي العودة إلى الرويّات الثلاث التي بين أيدينا، يذهب زولا في سرده بمستويين؛ الأول: الحالة الخارجية للشخصية، حيث يُكثر من وصف الشخصيّات طولاً وعرضاً وارتفاعاً، وهو بالمناسبة لا يُكثر من الشخصيّات في الرواية الواحدة، إلا بما يُخدم الشخصية الرئيسية والحدث والفكرة التي يشتغل عليها، من هنا تبدو كل الشخصيّات تتقارب في مسألة "الرئيسية"، لا سيما وأنه يتخذ المنحى نفسه في رسم الشخصية من الخارج والداخل. فهذه الحالة الشكلانية التي ستقوده إلى المستوى الثاني للشخصية، وهو المستوى النفسي، وكثيراً ما يكون سلوك الشخص انعكاس لتأثير كل مستوى على الآخر.

ففي الرواية الأولى: "من أجل ليلة حبّ" التي كتبها الأديب الفرنسي سنة (1883)، فـ (جوليان ميشون)، هو الشخصية التي ستحمل أحداث الرواية على منكبيها؛ وهي شخصية غير واثقة، مُشككة ومُترددة، دائماً ما ينظر إلى نفسه على أنه غير جميل، وغير مقبول اجتماعياً، "جوليان" الذي لا يمل الإيغال في العزلة اللذيذة حيث يشعر أنه في منأى عن العالم. وحتى الشخصية التي تُنافسه (كولومبيل) في حب الفتاة المتلسطة والسادية (تيريز)؛ هو الآخر يميل إلى حالة من القزامة شكلاً، وإلى طبقة اجتماعية دون طبقة "نبلاء" ذلك الزمان، (كولومبيل) شقيق (تيريز) بالرضاعة الذي احتل مكانة مُبهمة ما بين أن يكون خادماً، أو رفيق لعب مع الفتاة الصغيرة، وحتى المعشوقة (تيريز)، ابنة الماركيز والماركيزة من (آل مارسان)، أي الطبقة النبيلة، هي الأخرى تعيش انفصام في الشخصية، من جهة الاستعراض اللطيف أمام عامة الناس، فيما تُمارس في الخفاء ساديتها القاتلة لعشاقها دون أن يرمش لها جفن، أو يرفُّ لها قلب.

يذهب الجزء الأول من هذه الرواية بكامله وحتى الصفحة (26) لوصف حياة وسلوك (جوليان)، من العزلة السعيدة إلى الخوف اللذيذ، ومن ثمّ إلى الموت اللذيذ في سبيل ليلةٍ حب واحدة.

هنا يبدو (زولا) وكانه ينصحنا: كي تختار شخصية تحمل أحداث روايتك، فما عليك سوى أن تختار شخصية بحساسية مختلفة، فالشخص العادي لا يُمكن أن يكون شخصية رئيسية أو "بطلاً" في رواية أو فيلم، وحتى في قصة قصيرة، هنا لابدّ من شخص تتملكه هواجس ما، خوف ما، وهو ما ركّز عليه (زولا) في روياته الثلاث التي بين إيدينا.

وفي الروية الثانية "السّيدة نيجون" التي كتبها زولا سنة ( 1884)؛ يصوّر من خلالها زيف الاستعراض، والنفاق والانتهازية بين أفراد طبقة النبلاء، تلك الشكلانية النسوية التي تُستغل من قبل رجال ونساء هذه الطبقة لتحقيق انتصارات ومكاسب سياسية واجتماعية، حتى لو على حساب هذا الجسد الذي لا يمل الاستعراض، ثم يُشير بوضوح إلى الفروقات البينية بين الريف ومجتمع باريس البرجوازي، وكيفية استغلال الأول للثاني بالسبل كافة بما فيها السبل غير الأخلاقية، ثم يدخل إلى جوانيّات هذه الشخصيّات ليّبرز انعكاس الشكل الخارجي على النفوس، من قلق، وتوتر وغير ذلك.

وهو ما صوّره من الوقوع في وهم الحب لشاب قادم من الريف إلى الأجواء الباريسية لزوجة أحد النواب (بيرت)، وهي التي نادراً ما تحتفظ بالعشيق لمدةٍ طويلة، وفيما تعقد معه وصفة تحت جناح الحب، هنا حيث المرأة التي ترغب في الحصول على أصدقاء، لكنهم المفيدون في الحياة الزوجية. فيما كان الشاب (جورج) يوغل في وهم الحب، وهو الأمر الذي تسبب له بجرحٍ عاطفي، وقد تعلم الدرس منه بعد كثيرٍ من القلق والخشية من ارتكاب الحماقات في عالمٍ لا يعرف عنه الكثير، والذي داواهُ برغبته الأكيدة بالشعور بالمتعة في أن يحلم بزاويةٍ أنيقة للرزيلة لعشاقٍ يسيرون حفاة.

ربما في الرواية الثالثة "السيّد شابر" التي كتبها زولا سنة (1884)، أقول ربما يُفارق فيها قليلاً منحى سرد الروايتين السابقتين. أقول قليلاً، ذلك أنه سيبقى على تأكيد الحالتين من خلال السرد الوصفي الخارجي للشخصية، ومن خلال الإيغال عميقاً داخل الشخصية لإظهار الحالة النفسية الموازية.

أما هذه الـ "قليلاً" المُفارقة، فيُجسدّها في هذه الرواية بالسخرية، لا سيما من خلال التهكم الطافح في خواتيم هذه الرواية. فهذا البرجوازي الصغير السيّد (شابر الكبير) الذي يكمن حزنه في عدم إنجابه للأولاد، وهو الذي بلغ من العمر عتيّاً، ويُريد أن يملك المجد من أطرافه كلها، والذي بقي منه طرفٌ واحدٌ لم يمسك به بعد، فهو يُريد ولداً يرث ثروته الواسعة التي جناها من تجارة الحبوب، فيتزوج من فتاةٍ صغيرة عشرينية، لكنه يفشل في الإنجاب منها، الأمر الذي حدا بطبيبه الخاص لأن يصف له السياحة في مدينةٍ بحرية، يتغذى فيها على مأكولات خاصة من ثمار البحر من: جمبري، قريدس، ومحار وغيرها. وعلى شواطئ هذه المدينة ستتعرف الزوجة الصغيرة (استيل) على الصديق (هكتور)، حيث يقومان معاً بجمع الكائنات البحرية للزوج، وفيما الزوج يلتهم المحار، تعيش الزوجة قصة غرامية رومانسية مع صديقها البحري، وبعد تسعة أشهر، يكون "محار" السيدة وليس محار السيّد قد أنجز مفعوله في الإنجاب.

ورغم أنّ زولا ولد في القرن التاسع عشر، القرن المليء بالأسماء الروائية والشعرية، لكنه عرف كيف يخط لنفسه طريقه، وما أسلفنا وقدمنا به من حكاية الواقعية التي لا تهمل الجانب النفسي للشخصيّات، يعتبره النقّاد من خلاله؛ إنه مؤسس التيّار الأدبي المسمى: "المدرسة الانطباعية" التي تأتي من خلال التيّار الواقعي، لكنها تختلف عنه من خلال تشديدها على الحالة النفسية عند الشخصيّات لتذهب في تحليلها العميق مقدمةً لنا الصورتين الخارجية، والصورة الداخلية التي يُمكن اعتبارها أساس الصورة الأولى في محاولة تفنيد هذه "العصابيّات" التي تُحرّك الكائنات البشرية.

يسأل مُترجم الرواية في مقدمته: هل يُمكن اعتبار إميل زولا كاتباً صالحاً بعد لنقرأه في القرن الواحد والعشرين؟ بمعنى آخر، هل لايزال خطابه الأدبي قائماً في هذا العصر أم تخطّاه الزمن؟ كما يسأل سؤالاً آخر: هل يصلح إميل زولا ليكون مُدافعاً عن الشعب حقاً؟ وهل الوضع الكارثي الذي وصفه في المجتمع الفرنسي، لايزال موجوداً، ومن ثمّ يجعل من الكاتب حاضراً؟

ليُجيب عن السؤال الثاني قبل الأول: فـ "بروليتاريا" القرن التاسع عشر، تختلف اختلافاً جوهريّاً عن الطبقة العمالية في قرننا هذا، وهذا الاستغلال البشع الذي يصفه الكاتب في كتاباته لم يعد حاضراً اليوم. غير أنّ أهميّة روايات زولا اليوم، تأتي كوثيقة اجتماعية وسياسية لعصرٍ مضى. كما أنّ الروايّات الكبيرة تجد القدرة على الاستمرار في أن تُقدّم لنا أسبابها الكثيرة التي تجعلنا نتابعها. ومن هنا فإميل زولا كاتب غير عادي، فهو على الأقل يُجيد أن يروي لنا قصة تُسيطر علينا وتترك أنفاسنا محبوسة لنعرف النهاية.

----

الكتاب: محار السيد شابر

الكاتب: إميل زولا

ترجمة: إسكندر حبش

الناشر: دار دلمون الجديدة