تعد العصور الوسطى حالة بحثية صعبة لإعمال الأفكار التي أراد طرحها أستاذ اللغة الإنكليزية في جامعة كاليفورنيا "جون م غانم" في كتابه "الاستشراق والقرون الوسطى"، ذلك لأن هذه الفترة تشكل أرضاً خصبة للعديد من النظريات والطروحات المختلفة، مما يجعلها تصنيفاً محدداً يمكن الخوض فيه، ويختلف عن جميع التصنيفات العشوائية الأخرى للماضي، غير أن القروسطية هو المصطلح الذي استعمله لتأكيد أن التصنيف والفترة الزمنية تعد حالة بحثية صعبة، كذلك بسبب تناولها مؤخراً كأحد المكونات المهمة لتعريف الذات.

مثلت النزعة القروسطية في القرن العشرين بالنسبة إلى القارئ العادي وحتى الأكاديمي أحياناً مرادفاً للهروب من الواقع المتخيل، الذي رسمه وروّج له كتّاب مثل تولكين، وصنعه مبدعون مثل ديزني، وهكذا أصبح عالم القرون الوسطى خالياً وساذجاً يصلح للأدب الشعبي، ويمثل مادة للأفلام السينمائية وألعاب الفيديو، وبذلك فقد دوره الخطابي الحيوي في علاقته مع الحاضر، وإسهامه في تكوينه، فلم تعد القرون الوسطى تلك الفترة الخيالية التي يرجى استعادتها، بينما بقيت تداعياتها الخطابية السلبية طي الكتمان. لذلك تأتي فصول مؤلَّف جون غانم في هذا الكتاب لتبحث في مواضيع مثل الأدب والفن المعماري والتاريخ والمنهجية التي ميزت القرون الوسطى.

الرومانسية

ولدت دراسات الأدب القروسطي من رحم الحنين إلى تلك الفترة وما رافقها من قيم، بغض النظر عن الاهتمام بمؤلفين عظام مثل شكسبير أو نصوص بعينها، وكان هذا الدافع العاطفي هو المحرك الأول لهذه الدراسات بما فيها من جوانب اجتماعية وتاريخية وكذلك اللغة الأدبية التي ما زالت حتى الآن تؤثر في حكمنا على الأعمال الأدبية الخاصة بتلك الفترة.

وقد تواصل الجدل حول الفن والأدب القروسطي خلال القرن السابع عشر والثامن عشر مع اختلاف بسيط في التصنيفات، كما نجد لدى جيمس بيتي في كتابه "رسالة النقد والأخلاق". كذلك وفي القرن التاسع عشر قامت مأسسة الدراسات الأدبية على أكتاف الدراسات القروسطية، غير أن نتيجة هذه المأسسة كانت إقصاء الدراسات الرومانسية القروسطية بعد أن كانت في قلب حركة إحياء الدراسات القروسطية في القرن الثامن عشر، وكانت مجلة "جمعية النصوص الإنكليزية المتقدمة" من أهم المنشورات التي ظهرت في العصر الكلاسيكي، وقد ارتبطت هذه المجلة بمؤسسها إف جي فارينفال. حيث كانت مثل هذه الجمعيات مقصورة إلى حد بعيد على أفراد طبقة معينة بما يتفق والقيم الاجتماعية القروسطية، وبعد هذه الفترة بقليل ظهر كتاب مهم حول الأدب الرومانسي شكل مرجعاً لعدد كبير من الباحثين وهو "الرومانسية والملحمة" لمؤلفه كير، والذي اعتبر أن الميثولوجيا القروسطية تنضوي داخل الملاحم، أما الرومانسية فهي محاكاة من الدرجة الثانية لقوة الملحمة التي تمثل الأدب في فترة زمنية سابقة، ويعتقد كير أن الرومانسية تمثل الحداثة القروسطية بينما تمثل الملحمة التراث القروسطي.

وقد تواصل هذا التهميش للرومانسية حتى بدايات القرن العشرين، وانعكس بالضرورة على المواقف غير الأكاديمية للباحثين في الأدب الإنكليزي، وقد يكون الاستثناء الوحيد لهذا التهميش هو دراسة مالوري حول الأدب الآرثري حيث تحولت الأسطورة لعمل رومانسي.

وكان ارتباط الرومانسية بالأسطورة يبدو واضحاً جداً في أدب القرن العشرين الحديث، خاصة في أعمال ت. إس. إليوت ومنها "الأرض اليباب"، وهنا نجد أن مفهوم ارتباط الاستشراق بالقرون الوسطى الذي أقحم في السابق على الرومانسية لا يزال موجوداً في الأدب الحديث، حيث نجد لدى إليوت وبوند وييتس تزامناً وارتباطاً بين موضوعي الاستشراق والقرون الوسطى، كما أن هذين الموضوعين يستخدمان لنقد الحاضر في قصيدة إليوت "الأرض اليباب".

وفي السنوات القليلة الماضية انصبت الجهود على إعادة قروسطية القرون الوسطى، ذلك باستبدال المفهوم الرومانسي الثابت للماضي القروسطي بمفهوم أكثر ديناميكية وتعقيداً، كما تتضمن هذه الجهود تحرير الرومانسية من أسطوريتها ورومانسيتها، وقد ظهرت صورة الرومانسية القروسطية المتحررة من الأسطورة في عدد من الكتب المهمة مؤخراً مثل "الرومانسية المعزولة" من تأليف سوزان كرين، وكتاب "الأسلوبية والسرد البنيوي في الرومانسية الإنكليزية في القرون الوسطى" للمؤلفة سوزان ويتيغ.

ولقد كان للرومانسية القروسطية في التاريخ الأدبي عموماً وتاريخ النقد الأدبي خصوصاً مكانة مميزة، ذلك أن تقديس الرومانسية القروسطية التي تزامنت مع بدايات الأدب الرومانسي أمر لا يمكن فصله عن التوجهات النقدية للرومانسية ومنها تأسيس تاريخ أدبي وطني، وتكريس صورة الشاعر الرومانسي البطل والفارس، وإظهار جماليات الفترات التاريخية البدائية مقارنة بالفترات الكلاسيكية والكلاسيكية الجديدة.

وتواصل تأثير الرومانسية فيما بعد ليصل إلى الرومانسية الحسية لاحقاً، بما فيها من جوانب خارقة وماورائية وكلها جوانب تعود أصولها إلى الرومانسية القروسطية.

----

الكتاب: الاستشراق والقرون الوسطى

الكاتب: جون م غانم

ترجمة: عبلة عودة

الناشر: هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة