"تجريد الفن من النزعة الإنسانية" هو كتاب لخوسيه أورتيغا إي غاسيت، صدر عام 1925، وكان قد نشره في مقالات صحفية قبل ذلك بسنوات.

غير أن القليل من التأمل في مقالات الكتاب، وأبحاثه، سنجد أن الكثير من المسائل والقضايا التي طرحها غاسيت في بداية القرن الماضي، هذا إن لم تكن كلها، لا تزال تثير ذلك الجدل القديم، وبنفس المستوى من الحرارة، والطزاجة.

ويبحث محور هذا الكتاب في الآلية الأفضل لالتقاط الجمال الخالص بدون أدنى تشويش من حالات الدراما الإنسانية، التي قد تأخذ متلقي العمل الإبداعي أياً كان جنسه إلى مكان آخر بعيداً عن المتعة الجمالية الصرفة. وشبه غاسيت الموضوع بقضيةٍ بصرية بسيطة جداً وهي: أننا لكي نرى شيئاً، علينا أن نتخذ وضعية مريحة لأعيننا، وذلك كي نستطيع أن نرى ذلك الشيء بشكلٍ جيد. فإذا كانت وضعية الرؤية غير مناسبة، لن نستطيع أن نرى ذلك الشيء، أو سنراه بشكل سيئ، ويمثل الأمر بالنظر من وراء نافذة زجاجية إلى حديقة. فأعيننا ستتكيف بحيث يخترق خط نظرنا الزجاج، دون الوقوف عنده، ليرى أوراق الحديقة، ذلك أن هدف الرؤية هو الحديقة، ومن الحديقة إلى ما هو أبعد. من هنا، فإننا لا نرى الزجاج على الرغم من اختراقه بنظراتنا، ولا نشعر به، وكلما كان الزجاج شفافاً قلل ذلك من رؤيتنا له. في بحثه الطويل هذا يدعونا غاسيت لرؤية مثل هذه "الشفافية" في الإبداع، لأن ذلك هو ما يُشكل الحساسية الفنية. وللوصول إلى مثل هذه المهارة، ينصح الكاتب بـ"الاستعارة" والأسلوب الذي هو الإنسان نفسه.

ولكن قبل الحديث عن هذا الأمر، يذكر المترجم جعفر العلوني في مقدمته للكتاب، أن أورتيغا إي غاسيت، ألف كتابه "تجريد الفن من النزعة الإنسانية" بعد أن سادت إسبانيا، في القرن التاسع عشر، نزعة إنسانية، سيطرت على شتى أنواع الفن، حيث كانت الحالات الوجدانية تطغى على ذاتية الفنان، والمبدع بشكلٍ عام، الأمر الذي دفع أورتيغا إلى نقد هذا التبجيل العاطفي للفن وهذه الذاتية التي أضفت على الأدب الإسباني طابعها الخاص، وحاول مع المجموعة الأدبية التي ينتمي إليها، والتي دُعيت بـ"جيل 14" أن ينزع هذه السمة الإنسانية عن الفن، مستعيضاً عنها بفكرة الفن الخالص، وعلى حد قوله: "يجب حذف هذه العناصر المفرطة بالإنسانية التي سيطرت على الأعمال الرومانسية والطبيعية".

في هذا السياق، يُشير الكاتب إلى أن كل فن جديد هو فن غير جماهيري، بل إن كل أسلوب جديد يعاني مرحلة من الحجر الصحي، ومن ثم فإن الأكثرية تقفُ ضد هذا الفن الجديد، الذي هو فن غير جماهيري، وضد أن يكون له جمهور. وأن كل عملٍ فني جديد، يُحدث تباعداً في الرأي، فهو محبوب من بعض الناس، ومكروه من غيرهم، وهذا بتقدير الكاتب – الفن الجديد- ليس لكل الناس، كما كان الفن الرومانسي، بل هو موجه إلى أقليةٍ موهوبة على وجه الخصوص. ومن هنا يدعو أورتيغا إلى ما دعا إليه الإنجيليون: "لا تكونوا كالإبل ينقصها الفهم.". صحيح أن الأكثرية تُعارض الأقلية، لكنها لا تفهم. إذاً لنحاول نحن جاهدين أن نفعل العكس، أن نفهم من الفن الجديد معناه الجوهري، وبذلك نستكشف بأي معنى جوهري، هو غير جماهيري.

يذكر الكاتب: كل تكرارٍ في الفن، هو أمر عديم القيمة، وكل أسلوبٍ يظهر في التاريخ أنما يمكن أن يولد أشكالاً وصيغاً فنية مختلفة داخل النوع نفسه، ولكن قد نصل إلى يوم تستنفد فيه مصادر الفن الرائعة كلها، ومن هنا علينا أن نسمي مغامراً كل من يصادف ضمن ذلك الاستنفاد حاجة ماسة لحساسية جديدة قادرة على إعلان منابت جديدة لم تتناول من قبل. وإذا ما حللنا الأسلوب الجديد، فإننا نلاحظ فيه بعض النزعات المتصلة فيما بينها، فهو ينزع إلى "تجريد الفن من النزعة الإنسانية، وتفادي الصيغ والأشكال النابضة بالحياة، وأن لا يكون العمل الفني شيئاً آخر سوى عمل فني، واعتبار الفن كلعبةٍ ولا شيء آخر، التهكم الجوهري، وتفادي كل زيفٍ ونفاق، ومن ثم فعل دقيق.. وأخيراً، فإن الفن بالنسبة إلى الفنانين الشباب إنما هو شيء خالٍ من أي استعلاء وسمو".

كل هذه النزعات تؤكد أنه ليس بدهياً، كما يعتقد كثير من الأكاديميين أن العمل الفني يجب أن يحتوي على نواةٍ إنسانية بالضرورة تصقلها وتعتني بها إلاهات الفن. فالشعر على سبيل المثال ليس أكثر من الصبغة الجبرية الأسمى للاستعارات. والفنان الجديد يدعونا إلى أن نتأمل فناً، هو في حقيقة الأمر دعابة، هو جوهرياً السخرية من نفسه. ويضيف أورتيغا: أشك كثيراً إذا كان هناك شاب جديد يهتمُ لبيت شعرٍ أو لضربة ريشةٍ، أو للحنٍ موسيقي إذا لم يتضمن معنى ساخراً، وهنا لابد من الإشارة إلى أن الفن إذا كان ينقذ الإنسان، فهو فقط ينقذه من جدية الحياة، كما أنه يوقظ فيه عمر الصبا المفاجئ، وإن كل فنٍ جديد، هو فن مفهوم ويأخذ طابعاً من العظمة، وهو ما فُسر على أنه خلق الصبا في عالمٍ عجوز.

ومن هنا، فإن العمل الفني لا يكشف لنا سر الحياة، وسر الكائن، بل أن العمل الفني يُسعدنا بهذه المتعة الخاصة التي نُسميها جمالية، لأنه يُظهر لنا حميمية الأشياء واضحةً، يُظهر واقعها الإمكاني أمام تلك الأخبار الأخرى للعلم التي تبدو محض مخططات أو أوهاماً بعيدة، ومجرد رموز. فجوهر الفن هو إبداع موضوعة جديدة ولدت من التحطيم والحذف المسبق للموضوعات الواقعية. من هنا يعني أن الفن هو غير واقعي بشكلٍ مضاعف، أولاً: لأنه غير واقعي، لأنه شيء مختلف تماماً عن الواقع، وثانياً لأن هذا الشيء المختلف والجديد، والذي هو الموضوع الجمالي، يحمل في داخله عنصراً من عناصره سحق الواقع، ولما كان السبب الثاني يأتي دائماً بعد السبب الأول، فإن مساحات الجمال تبدأ فقط عند نهايات العالم الواقعي.

----

الكتاب: تجريد الفن من النزعة الإنسانية

الكاتب: خوسيه أورتيغا إي غاسيت

ترجمة: جعفر العلوني

الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب