بإصبعين غير معطلين، وشللٍ دماغي، يشرح روبين دايفيد غونساليس غاليفو للعالم من هو، خبرة الحياة لشخصٍ ذي إعاقة خطيرة، ومن دون دعم الأسرة.

في "وطنٍ" ملتبس ثمة تجربة لم توصف في المؤلفات الأدبية، ولأن أكاذيب كثيرة للغاية حول تأريخ مثل تجربةٍ كهذه، إذا لم يصفها هو، سيصفها أحدٌ ما غيره تكون لغير مصلحته، وثمة أسبابٌ أخرى تدعو (روبين) لإنتاج نصه بنفسه. غير ذلك فهو يصف نفسه لجهة الاختلاط بالآخرين، وعلاقته بالعالم تتم عبر الكلمة والحروف، هو ببساطة من هذه الناحية إنسان نصيّ. هكذا وجد الكاتب هنا نفسه شاهداً مجبراً على (النظام الشيوعي) في عزل الناقصين. عبر قصص - تجارب، هي أقرب إلى اليوميات اسمها رواية (بالأبيض على الأسود)، فضاؤها دار الأطفال، ودار كبار السن في ضواحي موسكو، بانتظار رعب الانتقال إلى الطابق الثالث في الدار الثانية، هذا الطابق الذي هو برزخ باتجاه "الدار الآخرة".

وتبدأ الحكاية عندما تلد أورورا ابنة إيغناسيو غاليفو الأمين العام الأسبق للحزب الشيوعي الإسباني ولدها روبين ثمرة علاقة مع صديقها طالب من فنزويلا (غير يليرو) من العاصمة كاراكاس هارب من نظام الخونتا إلى ماوراء المحيطات، تلد أورورا توأماً، يموتُ أحدهما بعد عشرة أيام، وبالنسبة إلى الآخر يتم اكتشاف مرضٍ مرعب - شلل الأطفال الدماغي - وفي الوقت نفسه تبدأ الإثارة السياسية إثر خلاف حاد بين الحزب الشيوعي الإسباني الذي يُدين الحزب الشيوعي السوفييتي، بسبب قضية براغ العاصمة اليوغسلافية، والأخير يدين الأول بسبب الشيوعية الأوروبية، وتصبح أورورا ابنة القائد رهينة الكرملين، وفي هذه الأوقات كان روبين يحتضر في العناية الفائقة، ويتصلون مع الأم ليخبروها أن وليدها قد مات، وكما في حالة أول التوأم، لا شهادة وفاة ولا شهادة ميلاد، فالموضوع مغلق، حتى لو ضربت رأسك ببوابة المشفى، استسلم الفنزويلي وسافر إلى الغرب، فيما تُسافر أورورا إلى باريس بعد سبع سنوات.

هذا الصبي، الذي في دمائه الأندلس وبلاد الباسك من جدّه وجدّته، اختلط كذلك مع هنود وصينيي أمريكا اللاتينية، ويصبح نزيلاً لدار الأطفال، ومن ثم دار كبار السن، في عدد من ضواحي موسكو، كان آخرها مدينة العمال الذين اعدموا رمياً بالرصاص. هنا تخرج في كليتي اللغة الإنكيزية والحقوق، وفي امريكا جمع المال لشراء كمبيوتر، وتزوج مرتين. ‏

في عام 2000 قرر مخرج إسباني ليتواني تصوير فيلم وثائقي عنه، اصطحبته مجموعة التصوير في رحلة كان خطها: نوفو جيركاسك، موسكو، مدريد، باريس، براغ، و.. هنا وجد أمّه واختار أن يبقى معها، ورغم تفوقه على الكمبيوتر، غير أنه يصبح كاتب نصوص، وفي ذات حوارٍ معه يذكر: لم أخطط لأن أكون كاتباً، حتى إنني لم أكن أحلم بهذا، كل ما حققته في روسيا، هو الإمكانية المحدودة للغاية للبقاء حياً، أنا ببساطة كنت أموت من الجوع، وأول مذكراتي ظهرت كرغبة في الحديث عن الذي رأيته، وبما مررت به، حتى أموت وأنا طاهر الذمة؛ بدأت بوعي أصبح كاتباً، وذلك عندما غادرت وزالت الضرورة في النضال اليومي من أجل البقاء حياً.. ‏

لكن الحقيقة في نصوصه في هذه الرواية، التي هي أقرب لأن تكون مجموعة قصصية، فإن أجواءها تعود لمرحلة ما قبل الوعي بالكتابة، ليكون شاهداً تارةً على نزلاء معه في داري الأطفال وكبار السن، وطوراً ليتحدث عن نفسه مع هؤلاء النزلاء، يُسجل كما تُسجل عينُ الكاميرا في تلفزيون الواقع، أو ما أصبح يسمى هكذا من برامج، حيث الحقيقة التي توصّل إليها هذا الكتاب أنه كلما كان الوضع أسوأ كان أحسن في الكتابة.‏

شخصيات هذه الحكايا إذاً هم أبطال في عين الكاتب مهما بدت حكاياتهم في بعض الأحيان مضحكة، ذلك ببساطة لأنه لا يوجد لهم مخرجٌ آخر، لأن الحقيقة الأكثر وضوحاً التي كانوا يسمعونها من الحاضنات عندما كنّ يعطين أحدهم قطعة الشكولا: طفل مسكين ياليته يموت بأقصى سرعة، حتى لا يعذّب نفسه ويعذبنا".

فأن تكون مأفوناً ليس صعباً إلى هذه الدرجة (نشاط المخ المتبقي) الكل يتحاشى النظر إليك، لا يلاحظونك، أنت لست إنساناً، أنت لا شيء، لكن أحياناً بسبب الطيبة الطبيعية، أو للضرورة المهنية يوضح المتحدث أنك من الداخل مثل الكل، لكن هذا أحياناً يحدث فقط. ‏

(بالأبيض على الأسود) هي إذاً كتابة أقرب إلى التنفيس، أو للشعور بالحياة، يصفها روبين - الكتابة ـ بحروفٍ بيضاء تزحف ليلاً على سقف الغرفة، أغمض عيني، لم تختف الحروف، ومن الحروف كانت تتشكل كلمات في الصباح التالي، لم يبق لي إلا أن أكتبها. ‏

حكايا تصوّر الحياة زحفاً، تبدأ هذه التراجيديا تصاعدياً، فالمأساة تكون أقل في دار الأطفال، لكنها تشتدُّ في دار كبار السن لتصل إلى أقصاها، حيث الموت ينتظر في الطابق الثالث، وأحياناً الموت يتمشى مع الجرذان في العنابر والممرات، في دار كبار السن يصبح الناس قساة من الضعف، بأرواحٍ مُغطاةٍ بدروعٍ، وهنا ليس مطلوباً منك أن تعيش طويلاً. ‏

على مساحة هذه التراجيديا، كان على روبين أن يضع الأسود على الأبيض. الأبيض الذي لا يحبه والذي كان منتشراً في كل مكان، فهو يعتبره لون الضعف والقضاء المحكوم، لون سقف المستشفى والشراشف البيضاء، أما الأسود فهو لون النضال والأمل، لون السماء الليلية، لون الأحلام والخرافة، بل ولون الحرية. ‏

وكما هو معتاد في الحياة يقول في قصته "الأسود" تتبدل المرحلة البيضاء بالسوداء، النجاح يتناوب مع خيبة الأمل، والغاية أن تبقى الحروف السوداء على الخلفية البيضاء، أي رغم كلّ مساحة هذا البياض المخيف، ثمة بؤر سوداء تجعل الناس يعيشون في الأمل، إنها اللحظات المضيئة التي يلفت إليها الكاتب الانتباه، والتي كانت موجودة في حياته، الأمر الذي يدعو إلى عدم التذمر من الحياة، أو من شيءٍ لا تملكه أصلاً. ‏

يؤكد: لا أريد أن أصف حقارة سقوط الإنسان لأضاعف بذلك سلسلة لانهائية من شحنات الشر المترابطة، لا أريد ذلك، أنا أكتب عن الخير والنصر، والسعادة والحب، أكتب عن القوة، القوة الروحية والبدنية، القوة الموجودة في داخل كلّ واحدٍ منا. ‏

قصص تأتي كمن يسحب من الضعف قوة، لذلك هو يشكر كل من صادفهم على كل شيء: نزلاء، معلمين، حاضنات، وحكومات. في النتيجة قدم شيئاً من السواد على هذا "الفراغ" الأبيض. ‏

----

الكتاب: بالأبيض على الأسود

الكاتب: روبين دايفيد غونساليس غاليفو ‏

ترجمة: د. ناصر محمد الكندري

‏الناشر: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت