الأدب عامة، والشعر خاصة؛ عمل إبداعي، والعمل الإبداعي لا يسير أو يقوم وفق قوانين صارمة، ولا تحدده النظريات، بل إن معظم الأعمال الأدبية هي تلك التي تجاوزت حدود الإنجازات النقدية السابقة ودفعت النقاد إلى السعي لاستنباط أفكار نقدية جديدة لا يلبث الإبداع أن تجاوزها، أي أن الإبداع الأدبي لا يأتي وفق مقتضيات النقد، بل إن النقد يسير وفق مقتضيات الإبداع الأدبي وطبيعته.‏

هذه القناعة النقدية، ولدت لدى الباحث والناقد السوري عطية مسوح، الدافع لأن يصدر كتاباً نقدياً، معيداً الاعتبار إلى التذوق في مقاربة النصوص الشعرية بعد أن كادت تعصف به المذاهب النقدية التي تقول إنها تقوم على العلم. فالذائقة وحدها هي الأصل في النقد، والتذوق هو جوهر العملية النقدية.‏

في كتابه النقدي "منارات شعرية - مقاربات نقدية تذوقية"، يقدم الناقد السوري عطية مسوح خلاله النقد التذوقي جمالياً، إذ يرى أن محاولات النقاد القدامى وضع مقاييس لجمال الشعر وقوانين نقدية لتقويمه والحكم عليه، لم تؤكد نجاحها من خلال تطبيق ما وصلوا إليه على الإبداعات الشعرية، ولم تلغِ اختلاف الباحثين وقراء الشعر في تقويم ما يبحثون فيه أو يقرؤونه، كما أنها، وغيرها من محاولات النقاد عبر الأجيال وحتى يومنا هذا، لم توصل إلى قواسم نقدية نظرية مشتركة.‏

وبعد سردٍ مسهبٍ من بحث الناقد عطية حول النقد الأدبي بين العلم والتذوق، يطبق عطية مسوح ذائقته النقدية على عددٍ من النصوص الشعرية، اعتبرها الناقد منارات شعرية في فضاء القصيدة في العالم العربي.‏

تلك الذائقة التي تلذذ من خلالها بعددٍ من القصائد لغير شاعرٍ عربي من أجيالٍ مختلفة، ومن مناطق مختلفة، ومن اتجاهاتٍ شعرية مختلفة. وهو في اختياره لتلك النصوص الشعرية يقدم مسوح أسبابه. إنها نصوص متميزة أعمل فيها ذائقته، واضعاً اليد على ما فيها من مواطن الجمال. نصوص من جيل الحداثة الأولى، ومن الجيل المعاصر، وهو يسلط الضوء على نقاط الأصالة وبؤر التوتر في الشعر بشكلٍ عام.‏

في الفصل الأول من دراسته التطبيقية يجرب الناقد دراسته على نصوص أربعة شعراء: "حديث أسمر" للشاعر وصفي القرنفلي، "في رحاب القصيدة" للشاعر صقر عليشي، "الإبريق" للشاعر إيليا أبي ماضي، و"درس من كاماسوترة" للشاعر محمود درويش.‏

حيث يلاحظ أن من بين النصوص المذكورة ما هي من البحر الكامل، وقصيدة إيليا أبي ماضي تجري على البحر الطويل، والنصان الآخران هما من شعر التفعيلة، فقصيدة صقر عليشي تجري على تفعلية (متفاعِلنْ) وهي تفعلية منتزعة من البحر الكامل، بينما قصيدة محمود درويش على تفعلية (فَعولن) المنتزعة من البحر المتقارب. وفي هذه الدراسة، لم يكتفِ مسوح بشعر الموزون وشعر التفعيلة، بل كان أيضاً لقصيدة النثر نصيبها النقدي من هذه الذائقة، فقد خصص القسم الثاني من الكتاب لدراسة إشراقات شعرية، وكان مثال هذه الإشراقات: انتصار سليمان و(الفرح الهارب)، (عبق الذات) عند ريم هلال، وعبد الكريم بدرخان و(ألم المدينة ألم الروح)، وأخيراً ندرة اليازجي و(العزف على مقام الألم).‏

سنكتفي بمثالي الباحث عن شعر صقر عليشي وانتصار سليمان.‏ فصقر عليشي، الذي سيأخذ الناقد قصائده مرتين في أنموذجين مختلفين، كان أصدر إلى اليوم أكثر من اثنتي عشرة مجموعة شعرية، بدأها بمجموعة (بعينيك ضعت 1979)، وكان أحدثها (كتاب اللمحات 2024). وبرأي مسوح فإن أعمال عليشي الشعرية، أكدت تميز صوته الشعري بخصوصيات جعلت منه صوتاً فريداً، أهم ما فيه القدرة على اقتناص اللغة الشعرية، أو الفكرة، وصوغها بإيجاز وتكثيف، إضافة إلى مهارة واضحة في بناء ما يمكن أن نسميه بالقصيدة الصورة، وأما القصيدة - في رحاب القصيدة- التي اختارها مجالاً للدراسة، فهي تتناول موضوعاً أثيراً عنده، وهو علاقة الشاعر بقصيدته أثناء كتابتها، أي معاناة الشاعر في عملية الإبداع.‏

"سنكتب شعراً‏

لكي يتدفق ماء الينابيع أعذب‏

لتشتد روح‏

لكي يصبح الصخر أصلب‏

سنكتب شعراً.. لنلهو بمجد الطغاة قليلاً‏

ونلعب."‏

وأما الشاعرة انتصار سليمان، فقد نشرت قصائدها أواسط تسعينيات القرن الماضي، وأصدرت أولى مجموعاتها (لو جئت قبل الكلام سنة 2000) وربما أحدثها كانت مجموعة (ما وأدت الشك سنة 2011) فقد التزمت الشاعرة خلالها كلها قصيدة النثر، وأهم ما يميز شعر سليمان، هو عمق المعاني التي تجيء محمولةً على أريكة من الصور الأنيقة، رغم أن المناخ السائد في شعرها، هو مناخ الإحساس بالخيبة، فالشاعرة دائمة السعي وراء الفرح الذي لا تكاد تقترب منه حتى تراه يبتعد.‏

"قلبي ناقوس‏

أخطأ تربيعة الفرح‏

فقرع ضربات الحزن الثلاث‏

وسرعان..

ما اجتمع الكل‏

لتقديم العزاء".

----

الكتاب: منارات شعرية - مقاربات نقدية تذوقية

الكاتب: عطية مسوح

الناشر: دار الينابيع