دون الوقوع في التبجيل، ودون احتفالية أو هتافات، يتحدث جاك دريدا عن نيلسون مانديلا، ليكون تكريمه له أكثر صدقاً، وإعجابه به ينطلق من التفكير، فهو يفسر بالعقل ويندهش ويتساءل: كيف ظهر مانديلا؟ ولماذا يبدو نموذجياً ورائعاً فيما يفكر فيه ويقوله ويفعله أو فيما يعانيه؟

بالنسبة إلى دريدا، فإن مانديلا رائع لأنه يحمل في شهادته معنى آخر للشهادة وهنا يقصد تجربة شعبه. إنه يقول "شعبي وأنا"، لكنه لا يتحدث مثل ملك، فلماذا يثير الإعجاب؟ وهذه الكلمة تفترض وجود مقاومة، لأن أعداءه أنفسهم معجبون به لكنهم لا يعلنون عن ذلك، وإذا ما كان أكثر جلاديه حقداً معجبين به سراً، فهي الشهادة كما يقال على أنه "مثير للإعجاب".

ويرى دريدا أن ما يدرك في البداية هو خط التفكير والانعكاس، ففي المقام الأول هناك قوة التفكير وتشتمل الحقيقة البديهية الأولى في كون التجربة أو الحماس السياسي لمانديلا لا ينفصل أبداً عن التفكير النظري في التاريخ والثقافة والقانون خصوصاً.

وهناك شيء آخر تعنيه قوة التفكير والانعكاس لديه، شيء يشير إلى المعنى الحرفي للمرآة ولمشهد التأمل، ولا يتعلق الأمر هنا بالقوانين الفيزيائية للانعكاس، بل بالمفارقات التأملية داخل تجربة القانون. فليس هناك قانون دون مرآة، ولن نتمكن أبداً من تفادي لحظة الإعجاب داخل هذه البنية العاكسة.

والإعجاب بمانديلا لا ينتمي فقط إلى دائرة النظر، فهو يترجم الانفعال والتعجب والاندهاش والتساؤل أمام كل ما يتجاوز الحد. والإعجاب بتعبير ديكارت يستدعي المعرفة، فبخارجه يوجد الجهل، لأنه يستمد قوته من المباغتة أو مما يحدث فجأة.

ولقد أصبح مانديلا مثيراً للإعجاب لأنه عرف كيف يكون معجباً، وما عرفه تم بداخل الإعجاب، وهو جذاب أيضاً لأنه كان منجذباً. وإن ما نريد سماعه بشكل من الأشكال قد قيل من طرف مانديلا، فهو تحدث عما فعله وما وقع له، ويعبر هذا الضوء المنعكس وهذه التجربة التي تجسد حركة السؤال جيئة وذهاباً عن نداء صوت، فبأي شيء يذكرنا صوت نيلسون مانديلا؟ وماذا يطلب منا ويفرضه علينا؟ وما علاقته بالنظر والانعكاس والإعجاب؟

ومن خلال إجاباته عن هذه التساؤلات بيّن دريدا أن مانديلا أصبح مثار إعجاب لأنه أُعجب بكل ما لديه من قوة، ولأنه جعل من إعجابه قوة وقدرة على النضال لا هوادة ولا رجعة فيهما، فالأمر هنا يتعلق بالقانون الجاثم فوق كل القوانين، إذاً أعجب مانديلا بالقانون وما سجله داخل الخطاب والتاريخ والمؤسسة أي أعجب "بالحق".

ولقد كان مانديلا معجباً بالتقليد الذي دشنته المواثيق والإعلانات عن حقوق الإنسان في جميع أشكالها، وغالباً ما يحيل على "كرامة الإنسان" وعلى "الإنسان" الجدير بهذا الاسم، إضافة إلى إعجابه بالديمقراطية البرلمانية وتحديداً بمذهب فصل السلطات واستقلالية القضاء، وإذا ما كان قد أُعجب بهذا التقليد، فهل يعتبر من جراء ذلك وريثاً له، وهنا يجيب دريدا ب نعم ولا، ذلك بحسب المعنى الذي نعطيه للميراث.

ومانديلا كان رجل قانون بكل ما تعنيه الكلمة، فهو رجل قانون بالفطرة، يدعو دوماً إلى تطبيق القانون، ومن جهة أخرى كان منجذباً على الدوام نحو القانون الذي كان يتعين عليه المثول أمامه مكرهاً، لكنه انتظر هذه الفرصة، وإذا ما أعدنا قراءة دفاعه الذي هو في الحقيقة عبارة عن مرافعة فإننا سنجده متضمناً لسيرة ذاتية سياسية، هي سيرته وسيرة شعبه، وهما معاً مترابطان، يقول مانديلا: "لقد اتهمت بكوني حرضت الشعب على اقتراف جريمة، ألا وهي التظاهر ضد القانون المؤسس للجمهورية في الاتحاد الجنوب أفريقي، وهو القانون الذي لم يساهم في وضعه لا شعبي ولا أنا"، فـ "أنا" هذه السيرة تتأسس وتجد تبريرها ومعقوليتها وتوقع باسم "نحن"، وكما لاحظنا فهو يقول دوماً "شعبي"، خصوصاً عندما يثير مسألة الذات المسؤولة أمام القانون.

وبالنسبة إلى مانديلا فإن الضمير والوعي بالقانون يشكلان شيئاً واحداً، كما أن عرض الذات وعرض الشعب يشكلان تاريخاً واحداً وتفكيراً واحداً، وفي الحالتين معاً هناك مسكن واحد ومزدوج وهو مسكن الإعجاب، لأن هذا الوعي يتقدم ويجمع ويمثل من خلال انعكاسه أمام القانون، أي أمام ما هو رائع.

وتجربة الإعجاب هاته هي تجربة داخلية بشكل مزدوج، وهي تعكس التفكير وتستمد منه كل قوتها الموجهة ضد القضاة الغربيين، ذلك أنها تعمل وبشكل مأساوي انطلاقاً من استبطان مزدوج، فمانديلا يستبطن أولاً، ويتحمل داخلياً فكرة نموذجية عن القانون، لكنه في نفس الآن يستبطن مبدأ الجوانية في الصيغة التي حددها الغرب المسيحي، فقانون القوانين يكمن داخل الوعي الأكثر حميمية ويتعين في آخر المطاف أن نحكم على القصد وعلى الإرادة الطيبة.

وكما كان مانديلا رجل قانون بالفطرة فهو كذلك بالمهنة أيضاً، فلقد درس الحقوق في البداية، وحاول التفكير في مهنته التي تكتسب أهمية خاصة، وتأمل في واجب الواجبات وفي المعنى العميق للقوانين الأخلاقية وفي روحها. ومرة أخرى وبإعجاب ملؤه الاحترام قرر حسم الموقف باسم واجب الواجبات الذي يعتبر واجباً فيما وراء الواجب، وقانوناً فيما وراء الشرعية، غير أن الوجه المفارق لهذا التأمل في واجب الواجب الذي يتجاوز ما يفكر فيه، هو أن المسؤولية تكتسب معناها داخل الوضع المهني، وهي تندرج في إطاره، لأن مانديلا قرر ممارسة مهنته رغم أنف القانون وأولئك الذين أرادوا منعه من ممارستها.

ويرى جاك دريدا في كتابه "استراتيجيات تفكيك الميتافيزيقا" أننا لن نتوقف عن الإعجاب بنيلسون مانديلا، وبما هو معجب به، لكننا لا نعرف ما الذي يثير إعجابنا، هل هو ماضيه الذي ظل فيه الرجل معتقلاً داخل إعجابه، أم هو ماضيه المسوق الذي يعتبر فيه حراً على الدوام؟ فهو من أكثر الناس تمتعاً بالحرية، لأنه امتلك صبر الإعجاب وعرف بشغف ما يتعين عليه الإعجاب به، وقد وصل به الأمر مؤخراً إلى رفض التمتع بحرية مشروطة، فهل يستشف من ذلك أنه سجن داخل إعجابه؟ أولم يكن ذلك ترميزاً لعدسة التصوير وللحق في النظر؟ وهل مهد مانديلا لاعتقاله أم أن الأمر تم عن طريق الصدفة؟ إن ما ينتظر من هذه الأسئلة وغيرها من الأسئلة التي لا تقتصر على كونها فلسفية، هو إبراز صورة مانديلا.

----

الكتاب: استراتيجيات تفكيك الميتافيزيقا

الكاتب: جاك دريدا

ترجمة: د. عز الدين الخطابي

الناشر: دار أفريقيا الشرق