لا شك أن المشهد الروائي العالمي، لا يكتمل إذا لم تكن رواية "اسم الوردة" للروائي الإيطالي أمبرتو إيكو، والتي يعدّها النقاد من أهم إيقونات هذا المشهد. ورغم أن إيكو لم يكتب الرواية قبل سن الخمسين، غير أنه قضى ما يُقارب الثلاثين سنة رحّالاً في شعاب البحث السيميائي. من هنا ثمة من يعدّه أنه جاء إلى الرواية مثخناً بجراح السيميائيات، وبجراح عمرٍ يجري دون توقف، فكانت رواياته مزيجاً من التأمل الصوفي والرؤية الحكائية الطويلة النفس والرصد الاستكشافي لحياة العلامات.

و"اسم الوردة" التي كانت النتاج الأول لهذا الروائي، صدرت عام 1980، ونالت شهرة فاقت التصور، وبعدها تتالت إصداراته الروائية، فكتب سنة 1988 روايته الثانية "بندول فوكو" ثم كانت روايته الثالثة عام 1994 "جزيرة اليوم السابق" فيما كانت رابعته الروائية "باودولينو" سنة 2002، ليعاود التجربة في روايةٍ خامسة هي" شعلة الملكة لونا الغامضة". غير أن "اسم الوردة" تبقى الرواية التي أخذت الحيّز الأكبر من النقاش، والسجال، والنقد، إلى درجة أغوت صاحبها لأن يخصّها هو نفسه بمجموعةٍ من النصوص، أصدرها في كتاب "آليات الكتابة السردية".

في "آليات الكتابة السردية" يعتبر أمبرتو إيكو أن ما هو أساسي بالنسبة إلى نصوصه، يعود إلى التجربة ذاتها، لا إلى مادة الروايات، ومضامينها، وتأويلاتها المستحيلة والممكنة. فهو يكتفي بسرد السيرورة "أي تقديم تأملٍ خاص في بناء الرواية." فمن أين جاءت الروايات، وكيف تطورت وتشعبت واستقامت كوناً عظيماً يعجُّ بالكائنات والأحداث والإحالات الثقافية المتنوعة الموغلة في الرمزية أحياناً والمنغرسة في تربة واقعٍ وتاريخ تعنيه حيناً آخر، حيث يقوم السرد بمحاولةٍ لرصد السيرورة من زاوية التكوين والخلق والإكراه مستبعداً في نفس الوقت كل ما يتعلق بالتلقي.

في" آليات الكتابة السردية" سيدرك القارئ أن الإبداع الروائي جهد وعناء وبحث في ذاكرة النصوص السابقة وتجاوز لها. فهو يعتبر الرواية "واقعة كوسمولوجية"، فما يهم هو تشييد العالم، أما الكلمات فستأتي فيما بعد. إذاً الأساسي هو ليس الكلمات، ولكن كيفية بناء العالم وتأثيثه. وهنا تجب الإشارة إلى أن الرواية لا تستند إلى حالات السرد العفوي، وإنما هي صنعة. وإيكو وهو يحكي سيرورته لا يتوقف عند تأويل أو تفسير حدثٍ ما، لكنه يومئ إلى ما يقف خلف هذا الحدث، ويحيط به ويبرره ويمنحه معنى. فالكتابة تحوّل المعرفة إلى احتفالٍ دائم، تجعل من العرضي والزائل لحظةً خالدة في التاريخ الإنساني.

في القسم الأول من الكتاب "حاشية على اسم الوردة" يتحدثُ إيكو عن عدّة أمورٍ أساسية من أهمّها العنوان والمعنى: حيث يأسف أن المعنى أصبح بشكلٍ من الأشكال أحد المفاتيح التأويلية، ومن الصعب في أوقاتٍ كثيرة الهرب من إيحاءات العناوين، لذا حين اختار عنوناً لروايته "اسم الوردة "عمل جاهداً على الإفلات من أي تأويلٍ ممكن من قبل القارئ، وحتى عندما يكون بمقدوره الإمساك بقراءةٍ ما، فإنه لا شك قد قام بعددٍ لا يحصى من الاختيارات، وجمع عدداً لا يحصى من وجهات النظر. فالعنوان برأي إيكو يجب أن يشوّش على الأفكار لا أن يحولها إلى قوالب مسكوكة.

يكتشف إيكو أنّ الرواية لا علاقة لها في البداية بالكلمات، وكتابة رواية أمر ما، يعود إلى"الكوسمولوجيا" تماماً كما هو الأمر مع القصة التي يرويها سفر التكوين. في الرواية إذاً يجب أولاً بناء العالم، وستأتي الكلمات فيما بعد من تلقاء نفسها، فامتلاك الأشياء سابق على وجود الكلمات، وهو عكس ما يحدث في الشعر حيث امتلاك الكلمات سابقٌ على امتلاك الأشياء. أما بناء العالم، فبرأيه عمل يحتاج إلى جهد لائحة طويلة من الكتب عن الفترة التي يريد الحديث عنها: أسماء وشهادات ميلاد، ثم يحدث انتقاء أشخاص على الكاتب أن يعرفهم وليس من الضروري أن يتعرّف عليهم القارئ.

ولأنّ التاريخ شكّل جزءاً من عالم إيكو، فهذا ما جعله يعيدُ قراءة الوقائع القروسطية التي شكلت متن كتاباته. وفي تأثيث عالم في روايةٍ تاريخية ثمة عناصر يتحكّم فيها المؤلف، أما العناصر الأخرى فتنتمي إلى العالم الواقعي، وليس صحيحاً أبداً – بتقديره- أنّ سرد أحداث الماضي، هو هروب من الحاضر، فقد نتحدّث عن زمنٍ ما، لأنّ أحداثه استرعت انتباهنا أكثر من أحداث زمن ما آخر، والرواية التاريخية علّها أنْ تحددَ في الماضي الأسباب التي كانت وراء ما حدث بعد ذلك، وأيضاً رسم السيرورة التي تطورت بشكلٍ بطيء من خلالها وأحدثت هذا الواقع.

وهنا لا بد من استخدام تقنية القناع، أي الحديث عن أحداث الزمن المراد الحديث عنه عن طريق ساردٍ ينتمي إلى ذلك الزمن، حيث يتمُّ الفصل بين المؤلف باعتباره شخصاً له سيرة محددة وبينه باعتباره مؤلفاً يروي أحداثاً أي سارداً، وبين الشخصيات التي تتم دراستها بما في ذلك الصوت السردي. وهنا يجب الانتباه إلى ما يسمى نفس الرواية والمقصود به تناغم الرواية، هذا التناغم لا يكمن في طول النفس، بل في انتظامه "إنّ الرواية العظيمة هي التي يعرف المؤلف متى يسرع، ومتى يتوقف، وكيف يُقدّر درجات الوقفات أو الإسراع ضمن إيقاع أصلي ثابت". إنّ مجرد التفكير في الإيقاع أو في نفس الرواية وهذه المعاناة، فذلك يعني التفكير بقارئ ما "سواء كتبنا ونحن نفكر بجمهور يقف على عتبة الباب، ومستعد للأداء، أو حين نكتب، ونحن نفكر بقارئ ينتمي إلى المستقبل. فالكتابة تعني وجود قارئ أنموذجي من خلال النص".

أما ما يقوله الكتّاب بأنهم يكتبون لأنفسهم، فإنّ إيكو يقول "احذروا الذي يقول هذا النوع من الكلام، إنه نرجسي ومحتال وكذاب"، والشيء الوحيد الذي نكتبه لأنفسنا هو لائحة المشتريات، وعندما يتم ذلك يمكن التخلص منها، لأنها لا تصلح لشيءٍ. إن كل ما نكتبه نقوم به لنقول شيئاً ما لشخصٍ ما".

----

الكتاب: آليات الكتابة السردية

الكاتب: أمبرتو إيكو

المترجم: سعيد بنكراد

الناشر: دار الحوار، اللاذقية