الهايكو، التانغا، والشعر الحديث ­الحر­ ثلاثة أشكال من الشعر في اليابان، وإذا كان الشكل الأخير هو الغالب الآن، رغم ذلك فإنّ شعبية الشكلين الأولين فرضت على أكثر من مليون ياباني ممارستها اليوم، وكذلك فرضت على الملايين في العالم لمقاربتها كتابة وتذوقاً.

وتعود شعبية الشعر الياباني أولاً لقصر القصيدة فيها التي تجعلها تناسب وبشكلٍ خاص، قول الانفعالات الخاطفة السريعة، رغم أن الحداثة الشعرية في اليابان تزيد على المئة سنة، فيما يعود تاريخ الهايكو والتانغا لأكثر من ثلاثة عشر قرناً، ذلك أن يابان اليوم­ حسب "ما كوتو­ أووكا"­ هي نتاج مصالحات بارعة من جميع الأنواع والأشكال بين القديم والحديث، سواء في الفن والسياسة، أو على الصعيد الاجتماعي.

وحسب ستة شعراء يابانيين، فإنهم يقولون لمحاورهم الشاعر السوري محمد عضيمة، في كتابه (أنطولوجيا الشعر الياباني)، إن ثمة خليطاً من الحساسية المعاصرة والعقلية القديمة. ‏

حيث تعني الهايكو قصيدة مطلع أو مطلعية كما في قصيدة "ماسكا أو كا­ شيكي" 1867­ 1902 (أيضاً وباستمرار/ أسأل/ كم من الثلج). فيما التانغا وتعني النشيد القصير، كما في قصيدته أيضاً (تويجات السوسن/ تتفتح الآن/ انتهى تقريباً/ ربيع حياتي/ الأخير)، وفيما للهايكو والتانغا شكل وإيقاع، ويحتاجان الى تركيزٍ فائق وصراحة، إلى درجة أن بعض الحداثويين من الشعراء في اليابان اليوم، يعتبرون زملاءهم من أصحاب هذين الشكلين، أنهم ناظمون وحسب، وليسوا شعراء. فيما الشعر الحر لا يتقيد بالشكل ولا الإيقاع، كما تخلى كثيراً من موضوعات الطبيعة التي تتناولها التانغا والهايكو لمصلحة القضايا اليومية، ويؤكد الحداثيون أن الشعر الحديث حرر تماماً فضاء الكتابة الشعرية، بل حرّر الشعر التقليدي نفسه، فصار سياسياً واجتماعياً، أي صارت له علاقة بحياة البشر، وليس فقط بحياة الظواهر الطبيعية، ويضيفون مع أن عدد الذين يكتبون الهايكو والتانغا أكثر، لكنهم لا ينتجون إلا لأنفسهم أي لا أحد يقرؤهم رغم صعوبة فهم الشعر الحديث.

فشاعر مثل ريوسيه­ هاسيفاوا يقول: إن شعري كالنبيذ لا يُشرب إلا مُعتقاً، في إشارة الى صعوبة فهم الشعر الحديث الذي يعتمد على الصورة المبهمة، موجه إلى ياباني يعيش في الحاضر اليومي المحسوس، فتقول الشاعرة كورا­ روميكو اختفى الشعر الذي يعتمد فقط على الجو الجمالي والعاطفي، وأثناء الحرب انتشر المجاز الفارغ، وكان على شعراء ما بعد الحرب أن يحطموه، هكذا مثلاً حلت عبارة "مخروط ضخم من الحديد المؤكسد" محل "الجبل المقدس" للإشارة إلى جبل "فوجي" الذي يقدسه اليابانيون، كما انتهت البلاغة الجميلة التي نجدها لدى شاعر كبير مثل "شيازاكي­ توسون"، وسبب ذلك هو تغير الواقع الياباني، أي الانتقال من الحياة القروية إلى الحياة الآلية والنثرية.

في الطبعة الثانية لكتاب عضيمة "سفينة الموت­ أنطولوجيا الشعر الياباني الحديث"، يذكر ثلاثة تحولات للحداثة الشعرية في اليابان: شعر ما قبل الحرب، ويبدأ مع بداية القرن العشرين، والثانية من عام 1945 وحتى سنة 1960، من هذا العام إلى الآن فقد كانت عاصفة من النظريات تنزل في اليابان نهاية القرن التاسع عشر. وأثناء ذلك ظهر شكل شعري جديد لا علاقة له بالتانغا ولا الهايكو إنه "البيت الحر" وذلك عندما أطيح بالعائلة الحاكمة ­شوكون توكوغاوا­ 1868 التي حكمت قرنين ونيفاً، وكان أول أعمال النظام الجديد­ ميجي­ هو وضع حد نهائي لإغلاق البلد أمام العالم الخارجي، غير أن سنة 1945 بالنسبة إلى اليابانيين هي سنة الاكتشافات العديدة، تبدأ من الهزيمة في الحرب الكونية الثانية إلى السحق العسكري لنزعتي التعصب القومي والعسكراوية. وفي سنة 1970 حمل العلم إلى اليابان تكنولوجيات إلكترونية جديدة وكانت ترجمة الأرض الخراب أو اليباب للشاعر ت.س إليوت الذي – على ما يبدو - أثّر في الشعر الياباني اليوم أشدَّ التأثير، وهذا ما يعترف به أغلب شعراء الحداثة في اليابان، فكان أن غابت "الكلمة الفصلية" وهي الدالة على الزمن في قصيدة الهايكو، وبغيرها تكون قصيدة قصيرة وحسب، وهذا ما تأثر به الشعراء في العالم ولا سيما في العالم العربي، ذلك أن الهايكو لا يمكن أن يكون هايكو إلا باللغة اليابانية حصراً، ويعود لطبيعة خاصة جداً باللغة اليابانية. ‏

وأخيراً: هل ترون كم نشبه اليابانيين­ في الشعر فقط ­ ومن الشعر الحديث لـ (غوزو­ يوشيما) نختم: "في شجرة واحدة/ توجد أخرى لم تولد بعد/ وفروعها/ ترتعش الآن في الرياح.. في سماء زرقاء واحدة/ توجد سماء زرقاء أخرى لم تولد بعد/ ويقطع أفقها الآن طير". ومن شعر كوتشي­ إيجيما "فوق الخدود تنقط الشمس/ وسلوكنا لا يزال/ سلوك مشردين/ ما يليق بنا الآن: أفواه عطشى وعيون جائعة..". ‏

----

الكتاب: سفينة الموت - أنطولوجيا الشعر الياباني الجديد

الكاتب: محمد عُضيمة

الناشر: دار التكوين، دمشق