على ما يجمع عليه النقاد والكثير من الباحثين، فليس من مصطلح تسنّى له من الاستخدام والشيوع، كما تسنّى لمصطلح "الأيديولوجيا" الذي شاع استخدامه حدّ الإفراط خلال القرن العشرين لارتباطه بظهور المذاهب الاشتراكية والقومية، وتصديه لقضايا كبرى في السياسة والاقتصاد والاجتماع.

هذا المصطلح الذي سيُقابل بمصطلحٍ آخر منذ بداية القرن الواحد والعشرين، هو مصطلح "الإبستيمولوجيا" بمعنى علم المعرفة، كنقيض للمصطلح الأول، وذلك بعد أن يمتلئ جسد الأيديولوجيا بسهام النقاد وقد "تكسرت النصالُ على النصال"، وحتى تهدأ النفوس الثأرية مؤخراً وتنظر إلى "الأيديولوجيا" نظرةً موضوعية، وأن المشكلة كانت في تطبيقها وليس بالأيديولوجيا نفسها، لا سيما بعد ادعاء أصحابها ملكيتهم للحقيقة وارتباطها بالاضطهاد والقمع وحالة الاستعلاء التي كان يُمارسها من اعتنقها، ومن ثمّ تحولها إلى نظريةٍ منغلقة.

رغم كلِّ هذه النظرة إلى الأيديولوجيا على أنها فكرٍ شمولي استعلائي، ورافض للتعددية، التي ألصقت بمحور الدول ذات الاتجاه اليساري، أو الشيوعية سابقاً، غير أن باحثاً مثل عدنان كرازة، سيُلاحق تأثيرها من خلال تحليله لعدد من الأفلام السينمائية في كتابه "السينما والأيديولوجيا – تحليل أفلام عالمية"، وسيجد القارئ أن تلك الأفلام التي قام بدراستها الناقد كرازة جلّها أفلام أمريكية. تلك الأفلام التي لم تخلُ من خط أيديولوجي واضحٍ أو خفي، خطّ كان من صميم تصوّر من أعدّ تلك الأفلام وأنتجها وأخرجها في استديوهات هوليوود الشهيرة، لتكون أحد أسلحة الصراع الحاسمة لأنظمةٍ شمولية هي الأخرى، وأن ادعت غير ذلك. أنظمة شمولية هذه المرة غربية تسعى إلى الهيمنة الفكرية والاقتصادية والسياسية على العالم مستفيدةً من إمكانات السينما الخارقة في غسل الأدمغة، وتخدير المشاعر عبر مشاهد المتعة الخالية من البراءة حتماً. لكنها برأي الباحث ستكون سلاحاً فنياً ماضياً في أيدي المخرجين الرؤيويين الذين ما فتئوا يُحاربون التمييز العنصري والظلم الاجتماعي والتغوّل الأممي، ويناضلون لتسود قيم العدل والسلم بين الشعوب، والتعاون بين الأمم وينبهون لمخاطر الحروب.

من هنا جاء تحليل الباحث كرازة لأكثر من خمسة وعشرين فيلماً، جميها تفوحُ منها روائح الأيديولوجيا العطرة والسامة مستخدماً النقد المعرفي – الإبستمولوجي – وهو منهج في تعرية البنية السطحية لهذه الأفلام، والكشف عن حقيقتها كوسيلةٍ هامة في تشكيل الوعي بشقيه المتقدم والمستلب.

وفي نظرةٍ لما أنتج من أعمال في الفن السابع في العالم العربي؛ يجدُ الباحث إنّ السينما في هذه المنطقة التي كان حظها النكب على مدار الأيام، أنها سينما همشت دور البنية الفوقية بعناصرها كافة، وفشلت في تسليح الجماهير بالرؤية النافذة والثقافة الأصلية التي تُعدُّ حجرَ الأساس في بناء الحاضر. فما بالك في المستقبل، ونظراً لأن الواقع العربي بطابعه السكوني قد حدد الأيديولوجيا السائدة فيه بأنها أيديولوجيا استلاب وتكريس للراهن بكلِّ رداءته، ومن هنا فمن العبث الانتظار من السينما أي تغيير جوهري ما لم يحدث هذا التغيير في الواقع نفسه، وأقصى ما يُمكن انتظاره من السينما في هذه الحالة "التحريض" لإحداث مثل هذا التغيير. وهي الغارقة في أيديولوجيا الاستلاب، ولا ينجو من هذا الخط المرسوم للفيلم العربي إلا بضعة أفلام هي علامات مُضيئة في تاريخ السينما العربية، تظهر بين فينةٍ وأخرى كأنها "موادّ مُهربة" أو أولاد غير شرعيين لسينما موسومةٍ بالعقم، ولم يعن الفيلم العربي إلا في استثناءات قليلة بتعميق وعي الإنسان العربي بمشكلاته الراهنة، وتوجيه رؤيته نحو المستقبل. حيث كان يتحلى دوره في تكريس القناعات السلبية والفلسفات الاتكالية والركون إلى أحلام اليقظة، وتكريس التفكير اللامنطقي والذهنية الأسطورية والاتجاهات الغيبية، وهي جميعها اتجاهات تُباركها أيديولوجيا الاستلاب. وفي نظرة أخرى للسينما الهوليوودية والعرب والمسلمين؛ يذكر الكاتب: إنه رغم إنتاج الوفير من تلك الأفلام الجريئة التي برعت في إدانة السياسة الأمريكية، فضلاً عن الأفلام التي أدانت التمييز العنصري بحرفية عالية منها فيلم "القيامة الآن" و"الحي اللاتيني"، رغم وجود مثل هذه الأفلام، إلا أننا لم نرَ العرب والمسلمين في الأفلام الأمريكية إلا إرهابيين مجرمين شهوانيين غادرين مُهدرين للنعمة، ومُنفقين لمالٍ لا يستحقونه على الشهوات. لقد كان هذا الاتجاه التعصبي مُرافقاً للسينما الأمريكية منذ بواكيرها.

----

الكتاب: السينما والأيديولوجيا، تحليل أفلام عالمية

الكاتب: عدنان كرّازة

الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب